معرض «تمجيد المرأة»: لأنني فاشلة أقدّر الناجح!


*غادة السمان


أنا رسامة فاشلة رغم من أنف معرقلي السلام والحياة المعافاة في لبنان، ما زال ذلك الوطن يزخر بشهوة العطاء والإبداع الفكري والأدبي والفني والطليعي التنويري والمستقبلي، المضاد لشهوة الموت!
وفي كل رحلة لي إلى بيروت، أذهب أولاً لزيارة المعارض الفنية التي يتصادف موعدها في تلك الفترة، فأنا مغرمة بالفن التشكيلي وحاولت الرسم من زمان جداً وفشلت والفاشل مثلي يعرف قيمة المبدعين في هذا الحقل.. وخلال ثلاثة عقود ونيف من الإقامة في باريس شاهدت مئات المعارض لمبدعين من العالم كله فالحضارات تسافر إليك في باريس. وكنت اكتب احياناً عن تلك المعارض انطباعات غير نقدية، بل مزاجية، لمتفرجة عادية، كما في معارض باريس ونيويورك وواشنطن وموسكو وسان بيترسبورغ وروما وبرلين وزيوريخ ومدريد وسواها كثير. ولطالما ركبت قطار (التاليس) السريع لحضور معرض لماغريت في مسقط رأسه (بروكسل) او لمعرض لفان غوغ. سطرت ما تقدم لأقول إنني بعدما شاهدت الكثير لم يعد ثمة ما «يبهرني»، ولكن المعرض الأخير للفنان اللبناني محمد الرواس بهرني بخصوبته الإبداعية البتكارية المعلقة بين الدمعة السرية والقمر الطفولي المشاكس العابث شبه الساخر من العشاق والعاشق في آن!
يمجد المرأة في أزمنة ظلامية
في غاليري أجيال (شارع عبد العزيز ـ بيروت) أسعدني أن أكتشف أن إبداعه ازداد نضجاً وتجاوز نفسه. ولم يدهشني أن أقرأ في كراس المعرض ان بعض إبداعاته وتراكيبه وتجهيزاته تمّ ضمها إلى العديد من أجنحة الفن الحديث في المتاحف العالمية كالمتحف البريطاني ومتاحف النرويج وسواها إلى جانب العديد من المجموعات الدائمة في المتاحف العربية، كما أقيمت له المعارض في فرنسا واليابان وبولندا والبرتغال والصين والولايات المتحدة وسواها كثير.
يشعر المحب لإبداع الرواس برغبة مضاعفة للكتابة عنه لأن الرواس يجهل فن الدعاية لنفسه بل ويتهرب من الأضواء.. فمعرضه الحالي هو إبحار ضد التيار وعنوانه: «تمجيد المرأة» و»يقذف» ذلك في أزمنة ظلامية نعيشها.
القوة الأزلية للأنثى
الذي قال مرة ان قوة المرأة تكمن في ضعفها سيموت كمداً إذا زار في بيروت هذا المعرض المكرس لتمجيد المرأة القوية الضارية التي تتقن فن الدفاع عن نفسها وليست بحاجة إلى رجل (يحميها) بذكورته. إنها المرأة التي يكبر الرجل حين يستسلم لجبروتها وسطوتها.. هذه هي امرأة معرض الرواس (المكرس لها) الطالعة من الحقيقة اليومية العصرية وعلى مر التاريخ.. ومن الجميل في زمننا الظلامي هذا الذي تطال فيه الفتاوى حق المرأة حتى في إزالة شعر قد ينمو فوق شفتيها أن يأتي من يدافع عن حقها في أن تكون بأنوثة كالعاصفة بكل بروقها ورعودها وجماليات سطوتها الجبارة المحببة. امرأة محمد الرواس ليست بحاجة إلى تقبيل الضفدع ليصير أميراً، فهي أميرة بذاتها. أما في حكاية ليلى والذئب فليلى عند (الرواس) هي التي تدافع عن نفسها بضراوة وقد تفترس الذئب عقاباً له لافتراسه جدتها.
وسندريللا لن تهرب من الحفل تاركة فردة الحذاء للأمير ليجدها وينقذها من بؤسها وظلم زوجة ابيها ـ فهي منقذة نفسها وتجد الأمير إذا رغبت في ذلك وتسطو على حواسه كما كانت امرأة الاسطورة (سيرسه) تصنع خمرة سحرية تحول الجنود الذين جاءوا لقتالها إلى خنازير صغيرة، لكنها لم تمارس سحرها على أوليس لسطوة الحب بينهما. فالحب مفتاحها لا الهيمنة الذكورية المتوارثة التقليدية.
وباختصار هذا المعرض تمجيد للقوة الداخلية للمرأة في المطلق، تمجيد لا مشروط بالنموذج التقليدي المقبول تقليدياً: الزوجة. الأم. الأخت.. بل المرأة في المطلق. ولكن ذلك لم يكن ما دفعني للكتابة بحماس عن المعرض، بل إبداع الرواس على الصعيد الفني، فالفن ليس فقط «ما نقول» بل «كيف نرسمه».
حذار.. قد يخطفك إلى داخل لوحته!
قال صديق إن الرواس ملك (الكولاج) لكن «كولاج» الرواس جزء من نسيج اللوحة.. فقد استطاع تجديد لغته الفنية بمهارة استثنائية وحرفية راقية.. وحين تقف طويلاً أمام كل عمل له تكون في حقيقة الأمر مخطوفاً إلى داخل اللوحة وترى كل ما فيها متحركاً مثل كواكب في مدارات (مجرة) لوحته ذات الأصوات التي تسمعها متمازجة في تنافرها. وكل لوحة في المعرض معرض قائم بذاته، فهي نسيج سحري يجاور الإبداع الشعري ويكاد يتجاوزه، إبداعٌ إشكاليٌ ملتبس الوضوح يدغدغ الأسئلة الدامعة. في لوحات هذا المعرض طفل عابث يذكرنا بقول بيكاسو انه بدأ الرسم كفنان ناضج وتطلب منه العمر كله ليتعلم كيف يرسم كطفل. والرواس في بعض اعماله يذكرنا بذلك كما يذكرنا في بعض الومضات باللوحات الهاذية لجيرانيموس بوش.
الاحتماء بعزلة اللوحة والفانتازيا
كتبت عن الرواس أقلام عديدة ذات مصداقية الشاعرة المبدعة جمانة حداد تقول: العملية الفنية (لدى الرواس) فيها كيان قائم بذاته لكنه جزء من كل تشكيلي يتوالد ويتضافر بحيث تصبح اللوحة ذات أبعاد ملحمية… لا تتباهى لوحته بتوجيه «رسالة» وليست «تلقينية». إنها لوحة انتماء إلى حقيقة ما هي حقيقة المرأة… وهي مذوبة في النسيج الحيوي للتشكيل.
يكتب بيار أبي صعب: معرض «تمجيد المرأة» يشهد على بلوغ الرواس أنضج مراحل اسلوبه في المراكمة والتأليف الجدلي بين العناصر والأزمنة والحكايات.
وفي مقالة مهمة بالفرنسية لكاميل عمون أترجم بحذر «الواقعية السحرية» هي أفضل وصف لأعمال الرواس المركبة.
وإلى اللقاء في الأسبوع المقبل مع الغليان الإبداعي في لبنان.. ضد «مصانع الأرامل».
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

ليست مرثيّة لإميل حبيبي

(ثقافات) ليست مرثيّة لإميل حبيبي: الإنسان في جوهره مرزوق الحلبي عندما اتخذ الحزب الشيوعي قرارًا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *