*زيد قطريب
محمد علي كلاي كان يضرب عنا نحن العرب الذين لم نكن نفوز بالنقاط بينما هو يربح بالضربة القاضية، إنه كيس الملاكمة النبيل الذي يعرف كيف يحسم المعركة
«باركنسون» محمد علي كلاي، يتصل في الحقيقة مع باركنسون الذهنية العربية، ومع كتابي الشعريّ الأول الذي أصدرته منذ عدة سنوات تحت عنوان «باركنسون» أيضاً!
هذا الأفريقيُّ الذي يرقصُ كالفراشة ثم يلسعُ كالنحلة، هو بمثابة لغزٍ حقيقي بالنسبة للولايات الأميركية التي وصفته بالزنجيِّ تارةً والقميء الطيب أحياناً أخرى، لكن جمهورها في كل الحالات، لم يستطع أن يتوقف عن حضور حلباته الشهيرة ضد «جو فريزر وجورج فورمان» كي يصرخ ملء فمه وهو يرى المقاتلَ المطعون يترنحُ بتعبٍ أمام هذيان الضربة القاضية لمحمد علي كلاي: نريدُ المزيد.. الآن!
ربما هي شهوةُ تفريغ الانتقام في الخصم الذي لم تصل إليه الجماهير يوماً، فالجموعُ محتاجةٌ في الغالب إلى بطلٍ ينوبُ عنها في تنفيذ المهمة المقدسة في إزاحة العدوّ ـ الآخرِ، حتى لو كان الأمر من باب اللياقة البدنية وتدريب الجسد على استعادة مجد الأفراد والجماعات. في هذه الحالة، كان على الملاكمين أن يطلُوا أجسادهم بالزيت، كي يبدو الموت لامعاً شهياً فوق السحنات السود وهي تسترخي أمام القبضات المعقوفة بشدة وإصرار من أجل الانتصار!
محمد علي كلاي، ينهال بقبضته التي تزنُ ألف باوند على الأجساد اللامعة في عتم الحلبة وتحت بلجكتورات التصوير، يوشك أن يتحول إلى رمز سياسي لولا لونه الأسود، إنه اللون نفسه الذي أيقظ في الغزاة البريطانيين رعبَ الهنود الحمر عندما وضعهم أعداؤهم في مصاف الديناصورات المنقرضة ثم تحول أولئك الغزاةُ إلى أميركيين بعامل الاستيلاء على الأرض: واحد.. اثنان.. ثلاثة.. يصرخُ الحكمُ سيدُ المباراة وهو يلهثُ بهلعٍ أمام قبضاتِ المحاربين في حلبة سبارتاكوس الإنسانية: السودُ ينتصرون على بعضهم بعضا بالضربة القاضية أمام تصفيق رواد التمييز العنصري، بينما المشاهدون يحتشدون على شاشات تلفزيونات»السيرونكس» الوطنية كي يراقبوا رعبهم بالأبيض والأسود، ثم يتنفسون الصعداء وهم يهزون رؤوسهم بالرضا عن ذلك المسلم الذي رفض المشاركة في حرب فيتنام لأنها لا تصب في خانة الجهاد من أجل الدين الجديد!… واحد.. اثنان.. ثلاثة.. يصرخُ الحكمُ بصوت مرتفع وهو يخبطُ على الأرضِ مرة أخرى ، ثم يعلن المحاربُ اسمه الجديد: «محمد علي كلاي» عوضاً عن «كاسيوس مارسيلو سكلاي جونيور». في هذه اللحظة سينضمُّ المنضوي الحديثُ للأمة المتهالكة، إلى قائمة المتبرعين للفقراء والمشردين من جماعة «خير أمةٍ أخرجت للناس» كي يرمّم الشرخ التاريخي الذي لم يستطع جورج واشنطن ولا إعلان الاستقلال الأميركي ترميمه في صدور النسل الغريب الذي استُقدم كعبيدٍ من مجاهل أفريقيا، ثم وجد نفسه فجأة منفرداً في الحلبة أمام قطعانٍ كاملةٍ من الذئاب بينما الجمهور كان منهمكاً بالتصفيق لسبارتاكوس الإنسانية الذي يُقتل أمام الجمهور المبهور ببراعة المشهد!
كيس ملاكمة
كيسُ ملاكمة.. العبارةُ اللوغو التي تختصر ملايين المشاهدين العرب وهم يفرّغون شحنات هزائمهم في القبضة السوداء التي نطقت بالشهادتين كي تهرب من الفردوس الأميركي المفترض إلى جنات أيديولوجيات العالم الثالث. الكيس الذي يترنح أمام القبضة العنيدة يشرح تفاصيل ذلك المرض العضال الذي تحوّل لاحقاً إلى باركنسون من الارتجاف والاهتزاز جراء تلاشي انتصارات الحلبة لمصلحة تسالي الجمهور المنهمك بحسابات البورصة.. كيس ملاكمة يروح ويجيء بلا مبالاة وهو يستسلم لوابل «البوكسات» المنهمرة بكراهية شديدة على الوجوه: «السلام عليكم» يقولها محمد علي كلاي، «كاسيوس مارسيلوس كلاي جونيور» سابقاً، كي يشعر بالنشوة التي حرمه إياها إعلان الاستقلال الأميركي عندما بقي هذا الزنجيّ النبيلُ كأنه الناجي الأخير في قبائل الزولو.
العائد إلى تلك المرحلة التاريخية التي شهدت أهم المعارك بالقبضات بين كلاي ومنافسيه المشهورين، يكتشف غرام الشعوب العربية بالضربة القاضية كتعويض عن العجز! تلك الأصابعُ المعقودة بقوة داخل الكف الاسفنجي في ذراع محمد علي كلاي، كانت بمثابة التعويض لشعوب لم تتمكن من رد الصاع صاعين ولو مرة واحدة في تاريخها، إلى درجة أن الضربة القاضية التي قضى بها كلاي على فريزر تكفلت بخروج تظاهرات وصعود صيحات من المنازل القليلة التي كانت تمتلك التلفزيونات في الأحياء الفقيرة.. شخصياً كنت قد حسمت أمري سلفاً إلى جانب محمد النبيل ضد فريزر الشبيه بدراكولا الوحش، لهذا لا يمكن التردد في التخمين لماذا كان يحرص «كلاي» على ارتداء الشورت الأبيض بينما منافسوه في الغالب يلبسون الألوان الغامقة؟ إذا سلمنا أن الصراعات التي تشهدها الإنسانية تكون المعركةُ مختزلةً فيها بين الخير والشر على نحو ما، فإن الجميع سيصرخون ملء أفواههم إن محمد علي كلاي هو الحق، وأولئك الذاهبون إلى حرب فيتنام من أجل الثروة والسطوة هم الأشرار دون شك!
المفارقة أن محمد علي كلاي انتصر في جميع المباريات التي خاضها بالضربة القاضية أحياناً وبالنقاط مرات أخرى، لكن جمهور المشجعين العرب خسر كل المعارك التي خاضها تاريخياً ولم تسعفه قبضة محمد كلاي المنتمي الحديث إلى خير أمة أخرجت للناس، كأن المعادلة بقيت تفترض وجود طرفين لا يمكن الفكاك منهما: الأول كيس الملاكمة الذي ينهال عليه الملاكم المصارع أو سبارتاكوس بالأحرى، أما الثاني فهو الضربة القاضية الحلم التي لم تكن لتسعف الشعوب في هزائمها المتكررة من الانتصار ولو مرة واحدة في الوقت المستقطع! كأن الفيلم يصور قبضات هزيلة على أجساد سوداء لامعة في عتم الحلبة وأمام عدسات الكاميرا، حين كنا نحنُ «الجمهور» الذي يخسر في كل مرة بالنقاط، رغم أن محمد علي كلاي يربح بالضربة القاضية كما نتخيل!
باركنسون
بالعودة إلى مرض باركنسون الذي عصف بالنبيل محمد علي كلاي في آخر أيامه، فلربما كان احتجاجاً على فشل الذراع الحديدية، التي وصل وزنها إلى ألف باوند، في حسم المعركة التي وُصفت بالطويلة الأمد؟ تُرى لماذا كان يهتزُّ هذا الصلبُ الحديديّ وهو يلبس طقمه الكحلي أمام الكاميرا؟ وما الذي أردى ذلك المقاتل الذي يرقص كالفراشة ويلسع كالنحلة حتى أصبح عرشه يرجفُ على هذا النحو؟ المفارقاتُ تبدو كثيرة من ناحية شعرية المشهد وذهنية الجمهور الباحث عن نصرٍ صغيرٍ ولو على شكل هدف في مرمى العدوّ حتى ولو احتُسب هذا الهدف على شكل تسلل!
في الحقيقة، لم يكن يشغل بالي في مباريات محمد علي كلاي منذ أن كنت أشاهدها صغيراً أمام شاشة تلفاز «السيرونكس» الوطني، سوى كيس الملاكمة! ذلك الشكل الأسطواني عندما يروح ويجيء بلا إحساس سوى الاهتزاز لوابل ضربات محمد، كانت إشكالية بالنسبة إلي أيضاً، ربما لأنه عدوّ محايد لا يرد الصاع صاعين كما نتخيل؟ وربما لأن حالة الضعف كانت تدفعنا دائماً لأن نحلم بخصم أبترَ لا يملك قبضاتٍ يمكنها أن تلكمَ وجوهنا بالشكل القوي إذا ما كنا خصوماً في حلبة عزلاء كما هو الأمر هنا! ألا يبدو كيس الملاكمة بمثابة «حمّال للأسى» عندما يستوعب وابل الضربات دون أن يقول «آخ»؟ ودون أن يرف له جفنٌ ولو من باب الاحتجاج! تفاصيل الحلبة أمام محمد علي كلاي لا تقول إن الإشكالية في الخصم فقط، بل هي تمتد إلى المحيط بدءاً من المقاعد العالية التي تحدق في الحبال المطاطية وهي تطوي الجسد المتهالك على القضبان، مروراً بالحكم المشغول دائماً بالتعداد: واحد.. اثنان.. ثلاثة.. وصولاً إلى عدسات الكاميرا المهووسة بالبورصة ورصيد الرابحين في رهانات بوكر القتل!
في كل الأحوال، قضى محمد علي كلاي نبيلاً في كل شيء، وهو إن ارتضى أن يكون كيس ملاكمة في كثير من الأحيان عندما كان يضع ذراعيه أمام وجهه كي يتلقى ضربات الخصم، فهو على الجهة الثانية كان يعرف كيف يستخدم الضربة القاضية كي يحسم المعركة في الوقت المناسب، ذلك المصارعُ القادم من مجاهل أفريقيا كان بحاجة إلى نصرٍ شهيٍّ وعالي المستوى فعلاً، نصر لم تكن الجماهير التي انتمى إليها حديثاً قادرة على تحقيقه بالشكل الصحيح، ولم تكن قبضته وحدها قادرة على رفع منسوب الأدرينالين في الأجساد الهزيلة الضئيلة وهي تصرخ من وراء شاشات «السيرونكس» الوطنية كي تنتصر لكلاي: بالضربة القاضية.. احسم المعركةَ يا محمّد!
______
*السفير الثقافي