*لينا أبو بكر
يا آه، يا أيها الألم، يا ألم النساء… اللعنة عليك! إنها تداعيات سينمائية، تقع بين فكي كماشة، أحدهما يحارب العنصرية والآخر يرتكبها، والمرأة بين البينين قربان الجحيم ونجمة البحر! (Life is a cabaret) الحياة هي الماخور الكبير، فأين تفر ما دمت أصلا كائنا كاباريهاتيا تتفرج على الحياة من شباك الجحيم وترفع نخب الجنة في ثكنة الأبالسة! على الجهة المحاذية (Black Butterflies) فراشات سوداء تستعين بأجنحتها كرئات للإغاثة تعينها على امتصاص الضوء والتمويه في حقل مكتظ بالفرائس والوحوش، فهل أنت حارس الأجنحة!
قد تتوه بينك وبينك حين يخونك اليقين، فتعثر على فردة الحذاء الضائعة للسندريلا الهاربة من حفلة الرجل الأبيض في ( نيانغا) إلى كوخ القصيدة ،حينها لن يكون أمامك سوى القبض على جمرة الظن لأنه ألذ من خطأ في اليقين ، وهذا ما يجعل البحث عن الحذاء أجمل من العثور على الأميرة !
محاصصة المجد
إنه فيلم «كاباريه» 1972، إخراج الأميركي «بوب فوس» الراقص المسرحي والكاتب السينمائي، وقد تفوق به – حسب التصنيفات الأميركية – على إبداعية فرانسيس فورد كوبولا: «العراب»، متوجا تفوقه باختيار (ليزا مينيللي) بطلة لناديه السينمائي ،كاباريه «كيت كات» الذي تدور أحداثه في برلين خلال حقبة جمهورية فايمر التي كانت تلفظ أنفاسها عام 1931 قبل استحكام التيار النازي عام 1933، وهو مقتبس من المجموعة الروائية: «قصص برلينية» أو حكايات من برلين – من ضمن أفضل مئة رواية إنجليزية في القرن العشرين- لكاتبها (Christopher Isherwood).
عندما بدأ مُنْتَج أصابع البسكويت المغلفة بالشوكولا يتصاعد كاسم تجاري بعد ثورة الحلويات، بدأت مذاقات الغواية مراوحتها بين الشوكولا والنساء، ليتحول (الكيت كات) إلى ناد ليلي تؤمه ثلة من رجالات الجيش وجنود التنين الأرجواني من الرايخ الثالث، وصناع السينما واليهود المتنكرين بالمسيحية والشاذين، وقبلة للدعارة والتصفيات السياسية والأبحاث الأكاديمية والأرجحة الحمراء في أحضان «سالي»- مينيللي – ملكة الليل!
الغريب أن القصة التي تتعاطف مع يهود ألمانيا بشكل مخيف، جاءت تروج للانحلال الأخلاقي، وتجعل من المخنثين أبطالا للحرية، وتحتفي بنمط الحياة العبثية والبوهيمية وعلى هذا الأساس احتل في مكتبة الكونغرس مكانة دائمة كوثيقة تاريخية في سجل الأفلام الوطنية – 1995!
التكريم بلا سبب قلة أدب!
توالت التكريمات حتى عام 2007 ليحتل الكاباريه رقم 63 في احتفالية الذكرى العاشرة لأعظم مئة فيلم أميركي، والمرتبة الخامسة في قائمة مؤسسة الأفلام الموسيقية- 2006، وجاءت أغنية «الحياة كاباريه» بالمرتبة الثامنة عشرة بين أفضل مئة أغنية لمئة عام- 2004، أما غنائم العمل فتجاوزت المليونين وأربعمائة ألف حتى مايو 1973، وكل هذا والسؤال لم يزل قائما: ما هي المعايير الجمالية التي احتكم إليها كل هؤلاء ؟!
إنه العبث، مربط الغواية، فالعمل بلا قصة حقيقية أو ملحمة تاريخية، يبالغ بالتعاطف مع الوضع اليهودي بتكلف بارد لا يثير تفاعلا حقيقيا أو حتى أخلاقيا لدى المشاهد الذي يرى في الحبك المختل جنحة استعراضية للجنس والشذوذ والعبث وهي الأضلاع الثلاثة التي كونت الهيكل القصصي لهذه اللعبة السينمائية، متحللة من الأدب، لم تشفع للحس الإنساني بالتعاطف مع شخوصه، فكيف تصدق الدعوة الاخلاقية المبطنة اتجاه الجالية اليهودية ونفسك تأنف ما شابه من مشاهد منحلة؟
«بولز» بطلة بلا بطولة، ألمها الوحيد هو العتمة، همها اليتيم أن تلقي حجر النرد في خانة الحظ، مقابل سهرة حمراء، وتسديد فاتورة طاولة مخمورة.. هذه هي رسالة الفيلم، فذروة الجمال هي المتعة المدنسة، إنها فلسفة التعبير عن القبح بالتقبيح!
الغريبة
فيلم الشاعرة الجنوب أفريقية فيلم ألماني باللغة الإنجليزية، يحكي سيرة حياة «أنغريد جونكر» 1933-1965.
المكان هو مدينة «Cape» جنوب أفريقيا، خلال حقبة الفصل العنصري، الذي شكل والدها أحد أهم أقطابه السياسية كرئيس للهيئة البرلمانية الخاصة بقانون الرقابة، مما زاد من تأزم العلاقة بينه وبين بطلة الفيلم التي تتعرف إلى الشاعر «جاك كوب» على شاطئ البحر ، وتدخل في علاقات عاطفية غير شرعية تضطرها لارتكاب جريمة الإجهاض التي أدخلت على إثرها إلى مستشفى «فيلكنبرغ» 1961 حيث ماتت أمها بمرض عصبي .
الفيلم يصور حياة شاعرة عاشت غريبة في بيت أبيها وفي بلدها، وفي زمنها، قامت بدور الشاعرة الممثلة (Carice Van Houten K) و الممثل (Rutger Hauer ) والممثل (Liam Gunningh) وقامت بإخراجه (Paula Van Der Oest) أما كتابة النص السينمائي فكانت من نصيب «جريغ لاتر».
يمضي الفيلم باقتضابه وتكثيفه، إلى عمل كوب على جمع أشعار صديقته وإصدارها في ديوانها الثاني عام 1963، حيث لم يستطع والدها حظر ديوانها كيلا يثير تعاطف العامة وأعمال الشغب ولكنه في أحد خطاباته البرلمانية أعلن تبرؤه منها وأخبرها أنه لا يريد أن يراها، حظيت مجموعتها التي انتمت لجماعة الـ «Sistigers»، بمديح من النقاد واستقبال فاتر من البيض، وحصلت بعدها على جائزة مالية مكنتها من السفر لأوروبا.
الموت الأول هو الأخير
لقيت قصيدتها «الطفل» الأسود صدى واسعا، إذ آلمها أن ترى جنود (نيانغا) البيض يطلقون الرصاص عليه وهو في حضن أمه، لقبت بعد رحيلها «سيلفيا بلاث» الإفريقية، فبلاث اختارت الاختناق بالغاز، وإنغريد اختنقت غرقا 1965، وقد طلب والدها بعد انتشال جثتها إعادتها إلى البحر.. إنه كما قالت الموت الأول الذي لا يمكن أن نموت بعده مرة أخرى !
في الـ 2007 عرض فيلم وثائقي ضم نبذة عن نضالها الأدبي في الستينيات، رحلت بكامل عزلتها بعد أن كتبت رسالة أخيرة لكوب تقول فيها: لم أعد أصلح للحب! بقيت كلماتها منقوشة على جدارية غرفتها، وفي ذاكرة من حرموا نعمة العدالة والمساواة في وطنها، وربما يكون خطاب نيلسون مانديلا أعظم تكريم حصلت عليه، عندما وجه إليها تحية خاصة في الرابع والعشرين من مايو عام 1994 خلال مراسم افتتاح أول برلمان ديمقراطي منتخب في البلاد، وقال أبياتا من قصيدتها: «الطفل»Die Kind :
(الطفل لم يمت/ رفع قبضته في وجه أمه التي صرخت: أفريقيا، أفريقيا/ إنها صرخة أنفاس الحرية) وهو المقطع الذي اختارته المخرجة كمدخل للفيلم.
سؤال الحرية
بعد كل هذا لك أن تسأل عن حقيقة الحرية ؟
هل فهمتها «سالي بولز» أم «إنغريد جونكر» أكثر؟ من تستحق أن تكون أيقونة لها ورمزا للنضال في سبيلها؟ من هي الممثلة الشرعية للحياة، التي ينتمي إليها الغد: صاحبة الكيت كات، أم صاحبة اللغة!
لا تستغرب السؤال طالما أن أرسطو وضع المرأة بمرتبة وسطى بين الطفل والعبد، ووقف جان جاك روسو موقفا معاديا لها حقر فيه من قدرتها على امتلاك الموهبة، ورأى فيها بودلير مرحاضا، أما شوبنهاور فألزمها بيتها على الطريقة الهتلرية، فهل كان أولئك فلاسفة منطق وحرية أم هم نسخة مستنسخة من الجحيم!
يبقى أن نقول أن المرأة بين الجحيمين أضحية، أو نجمة سقطت من علياء اللغة إلى قاع الماء.. إنها (إنغريد) نجمة البحر، التي لم تحظ بما حظيت به (سالي بولز) ولكنها فاقتها حرية وجحيما أجمل حتى غلبت الرجال وقهرت العزلة، باللغة.. اللغة فقط!
________
*الاتحاد