*أثيل حمدان
طالما كانت السيمفونية السادسة المشهورة بـ(الريفية)، للمؤلف العبقري لودفيج فان بيتهوفن، من الأعمال الأقرب إلى نفوس وأرواح محبي الموسيقى. فهي الأكثر ارتباطاً بالطبيعة وجمالياتها في تاريخ الموسيقى، كما أنها تمثل نموذجاً في التوازن والقوة والجمال. وصنفت بمثابة كونها الأميز والأجدر لبيتهوفن كصيغة عمل موسيقي متداخل أو متماه مع الطبيعة الأم.
كتب بيتهوفن في مذكراته عن السيمفونية السادسة، خلال فترة إبداعها، ملاحظات غاية في الأهمية، فيها الكثير من العمق الفكري، ومن بين ما دون في الخصوص:
«هذه السيمفونية ليست لوحة مرسومة لأن الترجمة الأمينة بالموسيقى لكل ما نرى، ستُفقد الأشياء كثيراً من جمالها، لذا يجب أن نترك للمستمع فرصة حقيقية لتكوين مشاعره وأحاسيسه الخاصة. فأنا أرى أن التعبير عن العاطفة سيكون أفضل من التوجه نحو التصوير المباشر بالموسيقى».
طقوس
ولادة السيمفونية الريفية كانت في الفترة المركزية من حياة بيتهوفن التأليفية، وتميُزها جاء لسببين، أولهما أنها السيمفونية الوحيدة المسماة من قبل المؤلف نفسه، والسبب الآخر يتأتى من تركيبتها وتوليفتها غير المعهودة في إبداع بيتهوفن الموسيقي. إذ جاءت هندستها الموسيقية في خمس حركات معنونة من قبل المؤلف نفسه. الحركات الثلاث الأخيرة منها تُعزف من دون أي توقف.
ولكنه هنا، على عكس ما جرى في سيمفونيته الخامسة «القدرية»، لم يهتم لمقارعة صممه المتسارع وقدره العاثر، بل كتب اندماجه مع الطبيعة وفهمه لجماليات تغيراتها. وكذا حكى فيها عن حبه العميق للحياة الريفية، حيث كان يفضل أن يقضي أياماً سعيدة في القرى الصغيرة المحيطة بالعاصمة النمساوية فيينا.
والتي كانت مكان العرض الأول في الشهر الأخير من العام 1808. وجاء العرض باهتاً لم تظهر فيه عظمة هذا العمل الكبير، ذلك بفعل برودة القاعة وضعف مستوى عازفي الأوركسترا، وتلك العوامل أسهمت مجتمعة في سوء الأداء خلالها، لكن العمل مع مرور الزمن غدا أيقونة في عالم التأليف الموسيقي، ومثلاً اتخذته غالبية من تطرقوا إلى موضوع الموسيقى والطبيعة.
انطباعات روحية
يستهل العمل بحركة رائعة التكوين، تصور إحساس الفرح الذي ينتاب الإنسان عند لقائه بالريف، وفي الخصوص، وظف بيتهوفن في بداية هذه الحركة، لحناً بسيطاً، قروي النزعة، هو اللحن الأساسي الذي يتكرر كثيراً وتقدمه آلات الكمان بمرافقة آلات الفيولا والتشيلو. فتحاكي صوت المزمار القروي، ذلك تعزيزاً من المؤلف للأجواء القروية التي تولد فرحاً داخلياً.
وأما الألحان الثانوية فلم تحمل في طياتها تناقضات حادة مع اللحن الأساسي، كما هو متبع عادة في المدرسة الكلاسيكية. وعلى صعيد منطقة التفاعل، فعالجها بيتهوفن بمعادلات لونية صوتية مختلفة بتسارع بناء الذري الموسيقية. وكذا عبر التراجع السريع الذي رسخ كإحدى أسلحة مؤلفي الفترة الرومانسية.
على ضفة الجدول
في محطته الجديدة، وضمن الحركة الثانية، يقف بيتهوفن أمام مياه جدول صغير، فتندفع الموسيقى بحيوية أكبر. ونسمع آلة التشيلو تقدم لحناً رائعاً غنائي الطابع مشبعاً بهدوء نفسي حالم، ويحمل الكثير من صفات الفن التشكيلي. إذ نرى المؤلف يتأمل سحب الصيف وهو ينصت إلى انسياب الماء في الجدول. كذلك يفعل وتغريد الطيور..
وربما أنه في هذه الحركة حاول أن يكون أكثر عمقا في الجانب التصويري من ما هي الحال في الحركة الأولى. إذ رصد وعكس جريان المياه العذبة، وفي نهاية الحركة اجتهد كثيراً في توظيف آلات النفخ لتقليد أصوات الطيور. أما من ناحية البناء، فالسمفونية في هذه الحركة تحمل كثيراً من صفات الأولى ولكنها أكثر حيوية ونشاطاً.
الحركة الثالثة
تتميز حركة (الاسكيرتسو المازحة)، في الحركة الثالثة، بالبهجة وبتصويرية واضحة مؤثرة. فهي تصور وجوه القرويين ومشاعر الفلاحين وهم يضحكون ويرقصون على إيقاع أغنيات وأناشيد قديمة فولكلورية. اللحن الأول الذي تقدمه الوتريات نسمع فيه لحنية هايدن البسيطة، التي تمثل مرح الفلاحين واحتفالهم.
ومزاح بيتهوفن الساخر فهو يقدم آلة الاوبوا كأنها اخطأت دورها في الدخول كإشارة على مقدرات الموسيقيين القرويين المحدودة. أما اللحن الثاني فيصور رقصات القرويين الفولكلورية، وبعدها يعود بيتهوفن إلى اللحن الأول فينهي الحركة بمفاجأة.
مفاجآت كثيرة..وأحداث مزعجة، تميز الحركة الرابعة في العمل. إذ تهب الرياح وتنهمر الأمطار فيتوقف العرس القروي ويتفرق الجمع، لنجد أنفسنا وسط العاصفة التي تخلق تبايناً كبيراً مع كل حركات السيمفونية. ففيها الكثير من الدرامية، بعكس باقي الحركات التي تعبر عن البهجة والفرح. كما أنها تبدأ من دون إنذار. فيتغير لون السماء وتتجمع السحب ويلتمع البرق، ثم نسمع زمجرة الطبيعة التي تنذر بهطول المطر الصيفي الغزير الجميل.
واستخدم بيتهوفن في هذه الحركة الكثير من الأساليب التي يمكن أن تعزز من الشعور بالعاصفة، وعمد إلى توسيع طاقم الاوركسترا وآلاتها، عبر إدخال آلات «البيكولو» الصداحة والترومبون المؤثر بجلال وقوة.
وبقطرات قليلة من مطر الوتريات، يوصلنا بيتهوفن في تسارع درامي، إلى ذروة كبيرة بمصاحبة الرعد والرياح الشديدة ومناقشة تفاعلية فيما بين تلك العناصر الطبيعية، ثم نتبين تراجع وتقهقر العاصفة مع سماع صوت رعد بعيد المسافة، ويعقب ذاك هدوءاً تدريجياً، كما فعل العبقري موزارت في خماسيته.
أغاني الرعاة
مع تلاشي العاصفة وانحسار سحب الصيف، تبدأ آلة الكلارينت النفخية بغناء لحن جميل قروي الطابع، يشبه أغاني الرعاة البسيطة المرحة ويبعث فينا فرحاً وغبطة، ثم ينتقل بعدها اللحن بانسيابية إلى آله الهورن، ذات الصوت الجليل الراقي، ليغلف اللحن بمشاعر الشكر لانتهاء العاصفة، وهذه المشاعر تتحول إلى سعادة وحبور، عندما تعيد الوتريات اللحنية ممثلة خروج القرويين من جديد.. سعيدين وممتنين للطبيعة الكريمة. ويجدل بيتهوفن في جميع هذا، نشيداً رائعاً يجسد روعة الحياة ودفء الروح في علاقتها واتحادها بالطبيعة.
في السينما
1779
قدم الفن السابع السيمفونية «الريفية»، في أفلام عديدة، ومن بين أبرزها ظهورها في فيلم المخرج الأميركي هال اشبي «أن نكون هناك». إذ ساعدت في إضفاء مسحة إنسانية بسيطة دون بهرجة أو افتعال.
1982
أما في فيلم (اختيارات صوفي)، بطولة ميريل ستريب وإخراج الان باكولا. فساعدت موسيقى الحركة العاصفة على بث مشاعر متسارعة ما بين الخوف والترقب.
1982
لقي فيلم المخرج الأميركي جيمس لابين (ارتجالات)، نجاحاً مهماً. وكانت موسيقى بيتهوفن حاضرة لتزرع دفئاً شاعرياً في درامية الفيلم العميقة.
في الفن التشكيلي
1965
عُــرف عـــن الــــرســام الإيطــالي تومـــاســـو دي ميو، حبه الشديد لقوة التعبير البيتهوفني.
وهــــو قـــدم معـــرضاً متــــكاملاً وخـــاصــاً، نقل فيه انـــــطباعـــاته عن مؤلفات بيـــتهوفن، وكـــانت لـــوحــــة الســــيمفونية الــــريفية مــــن أجمـــل لوحات المعرض.
1978
الرسام النرويــجي كــــييل فـــولكفورد، وضع
في لوحته انطباعاته اللونية المتميزة عن السيمفونية الريفية.
Ⅶأقرب الأعمال الموسيقية إلى نفوس محبي بيتهوفن بفضل أنغامها المحاكية لعوالم الريف
Ⅶ نموذج إبداعي موسيقي يتفرد بألحانه التي توائم بين التوازن والقوة والعذوبة
Ⅶ السمفونية الوحيدة التي سماها المؤلف بنفسه وهي تتميز بتضمنها 5 حركات
Ⅶ باهتة كانت في عرضها الأول 1808 لكنها غدت أيقونة خالدة
________
*البيان