*عبير زيتون
«إن الجاز الذي يعزف الآن ليس غناء، وإنما أنغام عدد كبير من الهزات الصغيرة، إنها لا تكل ولاتمل، كأن نظاماً صارماً يولدها ويهدمها، إنها تجري وتتدافع، فتضربني لدى مرورها، ضربة صماء وتتلاشى.. علي أن أقبل موتها. بدأت أشعر بالحرارة، أشعر بنفسي سعيداً». (سارتر، الغثيان، ص 380).
من منا في الزمن الراهن لا يشعر بحالة الغثيان الشديدة التي تتحرك في جسده، وتتصاعد إلى روحه، مع مشاعر الملل الكبير، والوجع من الزمن والبشر، مصحوب بألم فكري، وقلق جودي يجعلنا نهيم تائهين، ضجرين، مطعونين في الروح، ونحن نبحث في أعماقنا وحولنا وفي الأشياء المحيطة بنا، عن تفسير منطقي لمعنى الوجود المتناقض حولنا، والذاهب إلى الانحدار الشديد في قيمه ومعانيه؟ وها هو لسان حالنا يعج بسؤال قلق لجوج….متى الخلاص وكيف؟
غثيان وغثيان
غثياننا الحالي قد لا يتشابه مع رفاهية غثيان فيلسوف القرن العشرين (جان بول سارتر) لا في الزمان والمكان، ولا في المعطى الفكري والوجودي، وإن كان في نتائج بحثه عن الخلاص ينير لنا الطريق الذي اهتدى إليه بعد رحلة شاقة ومتعبة من الترحال الفكري التأملي، والألم النفسي من الوحدة، والعزلة، ويلفت انتباهنا إلى دور النغم الموسيقي البسيط، في علاج بطل روايته (روكانتان) من حالة الغثيان والقرف واكتشاف مذاق السعادة، التي تلمسها عبر عوالم الموسيقا، التي خلصته من غثيان الشعور، وشعور الغثيان، وولدت في نفسه خلاصا وارتياحا لمعنى الوجود، الذي وجده عرضيا، مقابل حتمية وضرورة الموسيقا.
ولأن الحياة دون موسيقا غلطة كبيرة كما قال (نيتشه)، ولأن النغم مفتاح الروح على حد تعبير (فاغنر)، ولأن ضجيج العنف وأصوات القتل والدمار والحروب تحاصر أنفاسنا حتى النخاع الشوكي، فلا بد لنا من فسحة نقية طاهرة نلتقط فيها الأنفاس. وهل هناك أجمل وأرقى، وأسمى من الموسيقا.
في أغوار الموسيقا
النغم الموسيقي ليس كلمة، بل فراشة ملونة تنداح في أفق الروح، تبتعد تتلاشى، ويبقى منه الصدى. كصوت نايٍ ينداح في خضرة الحقول، لراعٍ يأوي مع الشمس عند الغروب إلى عالم آخر متخيل، نحسه لكن أبدا لا ندركه.
الموسيقا وحدها بين الفنون جميعاً.. هي الفرح، الحزن، الكرب، الرعب، المسرّة أو راحة البال ذاتها، دون عامل مساعد، وبالتالي دون أهداف تجعلها وسيطاً كما يقول شوبنهور. تستهدف الموسيقا، حسب إدوارد هانسليك، الحالة الوجدانية للمتلقي بشكل أكثر تأثيراً وأكبر سرعة من أي فن آخر، فهي تستملكنا وتمسك بيدنا، وتبقي سلطتها علينا، لا بل بشكل أكثر قوة، وعندما يكون الإنسان في حالة انفعال أليم ويسمع أو يعزف الموسيقا الشجية، فينفطر قلبه، وتخترقه الموسيقا كالخل في الجرح. ولا يوجد أي فن يمكن له أن يغوص بهذا العمق، وهذه الحدة في أرواحنا مثل الموسيقا، لنبقى لها أسرى لانستطيع منها فكاكا. وما نشعر به ليس هو شكل الموسيقا إنما الأنغام نفسها، اللحظة الموسيقية، التي تلسع أعصابنا، وكامل جسمنا، فاتحة نافذة جديدة لايحسن فتحها سوى النغم. وهذا ماعبر عنه غوته في رسالته إلى صديقه الموسيقار الألماني وتسلتر وهو في عمر (74) عاما يقول: «أريدك أن تشفيني من حساسيتي الموسيقية المرضية التي سببها بلا شك الظاهرة نفسها «ظاهرة الحب».
الفلاسفة والموسيقا
كان الفيلسوف القديم يرى في الموسيقى أكثر من مجرد تعبير عن المشاعر. فلم يكن يقتنع بالنظر إليها على أنها وسيلة من وسائل الاتصال الفني، ينقل الموسيقي الشاعر من خلالها أفكاره وأحواله الانفعالية إلى الآخرين، وإنما حاول الفيلسوف القديم أن يعرف إن كان أصل الموسيقى يرجع إلى مصدر علوي يعلو على فهم البشر. وكان يؤمن بأنها توصل إلى معان أخلاقية بألحانها الملونة، والى دلالات فكرية في إيقاعاتها المختلفة. واستنتج الفيلسوف القديم أو بعضا منهم أن الإيقاع واللحن، إنما هما محاكاة لحركات الأجرام السماوية، التي تصدر عنها خلال حركتها في السماء، فينتج عنها موسيقى إلهية لا تدركها آذان البشر.
وتنُسب جذور التفكير الجمالي في فن الموسيقى الغربية إلى (أفلاطون) الذي لا تزال كتاباته لغاية اليوم تؤثر تأثيرا واضحا في الأبحاث الموسيقية، وإليه وإلى سواه من الفلاسفة اليونان، يعود الفضل في تنظيم وتطوير النظريات الموروثة عن أسلافهم من الشرق الأدنى القديم.
واعتقد (فيثاغورث) أن الموسيقا البشرية الفانية ما هي إلا نموذج أرضي لانسجام العلوي للأفلاك، أما الفيثاغورثيون المتأخرون فقد اعتقدوا أن السموات تنبعث عنها موسيقى بالفعل خلال حركة هذه الأجرام السماوية في السماء، فتؤدي السرعة التي تتحرك بها إلى بعث أصوات منسجمة كأنها مجموعة غنائية تنشد في السماء، أما السبب الذي يمنعنا من سماعها فهو أننا اعتدنا عليها على الدوام.
ويعود إلى (فيثاغورث) الفضل في اكتشاف قرار السلم الموسيقي وجوابه والمسافات الواقعة بينهما. وما زال السلم الفيثاغورثي يذٌكر في مجامع العلم، وندوات المعرفة الموسيقية حتى الآن.
كما عرف عن الفيلسوف والعالم الفيثاغوري (أرخيتاس تارنتوس) الذي عاش في النصف الأول من القرن الرابع معاصرا أفلاطون، أنه اهتم بدراسة الجوانب الفيزيائية للموسيقى، أكثر مما فعل أي فيثاغورثي آخر، وكانت له في الموسيقى كتابات كثيرة تضمنت كشوفاته وحساباته الخاصة. ورغم أن (آرخياس) كان عميق التأثر بعجائب العدد، فإن كتاباته لم تتضمن أي إشارة إلى تفسير ديني، أو سحري للعلاقات العددية، وتوصل في علم الصوت إلى تحديد النسب العددية المناظرة للمسافات، التي تفصل بين أنغام السلم الرباعي الموسيقي القديم.
ويذهب الفيلسوف اليوناني (ديمقريطس 460ق.م) إلى أن الشاعر الموسيقار يحمل قبسا من الروح الإلهية، وامتدح الشاعر (هوميروس) ووصفه بأنه شاعر ملهم من الآلهة، ووصف الموسيقى بأنها أحدث الفنون عهدا، وأنها لم تنشأ عن الضرورة وإنما عن الفيض والوفرة.
ويرى الفيلسوف والحكيم سقراط (469 – 390 ق.م) أن الفلسفة تجعل الحياة العادية ذات معنى، وأن الموسيقى هي أرفع الفلسفات وآمن أن للموسيقى القدرة على تشكيل نفوس الصغار وإعدادهم للحياة.
وقد سجل تلميذه (أفلاطون) في محاورته فيدون حلما راود سقراط في الساعات الأخيرة من حياته، وهو نائم في زنزانته قائلا: لطالما أتاني الوحي في الأحلام خلال حياتي، بأن أؤلف الموسيقى، وكان الحلم يأتيني مرارا بصورة مختلفة، ولكن يقول نفس الكلمات: ارع الموسيقى وألفها.
ويرى أفلاطون (427 -347ق.م) أن الشعر الغنائي والنغم لا ينفصلان، وأن الموسيقى ينبغي أن تستخدم من أجل تحقيق الأخلاق الصالحة، وأكد في كتابه (الجمهورية)على التأثيرات الأخلاقية للموسيقى، وتمسك بأن الموسيقى ينبغي أن تكون وسيلة من وسائل دعم الفضيلة والأخلاق. فالموسيقى حسب أفلاطون هي أرفع الفنون لتأثير الإيقاع واللحن في الروح الباطنية في حياة الإنسان وحياته الانفعالية أكثر من تأثير العمارة أو التصوير أو النحت.
وكان (أرسطو) يدرب الشباب على استخدام النغم الدوري الذي يلهب فيهم روح الرجولة والفخر، وكان متفقا مع الفيثاغورثيين وأفلاطون على أن التناسب انتظام، وأنه يؤدي بطبيعته إلى إقناعنا وهو أكثر اتفاقا مع الطبيعة، وأن غاية الموسيقى خير الإنسان والمجتمع ورفعته الأخلاقية.
أما (أرسطو كسينوس 354ق.م) تلميذ أرسطو فهو أول فيلسوف يضع مذهبا جماليا في الموسيقى مبنيا على قيم إنسانية خالصة، وحاول تجنب المسائل الأخلاقية، والتفسيرات الرياضية الخالصة للموسيقى، مؤمنا أن الحس والعقل والقدرة على الاستماع والتمييز كفيلة بأن تتيح للمرء أن يحكم بنفسه.
وأما في العصر الحديث فلم يكتب الكثير عن الموسيقى من قبل الفلاسفة والباحثين إلا من قبل القلة القليلة بعد أن غلب عليها طابع عصرها المادي البحت، رغم أن واقع الموسيقى العربية وحتى العالمية اليوم ينبئ بمصير مشابه لشاعر بابلي قديم قال في نشيد مكتشف في أول نوتة موسيقية مكتشفة في العالم وجدت في أوغاريت السورية: لقد نفتنا الآلهة غرباء حتى عن أنفسنا، نجوس أزمنة التاريخ والمستقبل، دون كمنجات، هكذا كان حكمنا الأبدي.
سبب للنقمة
من أطرف القصص المثيولوجية المتعلقة بالموسيقا والآلات الموسيقية، قصة رب الرعاة (بان) الذي تجرأ عبر مزماره، أن ينافس (أبولون) رب الفنون والموسيقا أمام (ميداس) الذي كان صديق (بان) مما جعله ينحاز إليه، فأثار الأمر استياء (أبولون) ونقمته على (ميداس) المتحيز وحكمه الغبي فجعل (أبولون) على رأس (ميداس) أذني حمار عقابا على حكمه المتحيز المجرد من الذوق الفني، والحس الجمالي والرأي الصواب.
_______
*الاتحاد الثقافي
_______
*الاتحاد الثقافي