*عهد فاضل
حياة ستيف غوبز، من أولها إلى آخرها، مزيج من اللغز والابتكار والتحفظ. عقل عبقري فريد، ومؤسس شركة وصل نجاحها إلى درجة منافسة شركات النفط العملاقة في الولايات المتحدة الأميركية. سحَر المستخدمين بابتكاراته. إنما ما هو سر هوس الناس بمنتجات شركة «أبل»، مع أن هناك منتجات أخرى منافسة تؤدي مهمة الاتصالات مثل أو ربما أفضل مما يؤديه الآيفون، مثلا؟.
ما هو سر المصمم والمبتكر الذي جعل من علاماته التجارية المميزة، هوسا محموما لا مثيل له؟ هل من مصدر أوديبي معين أثر في تكوين ستيف غوبز، وهو الذي بدأ حياته في دراسة الشعر والنقد، وعرف عنه القلق الماورائي بعد زيارته الهند وعودته بوذيا. ما سر رفضه حتى لمجرد التحدث هاتفيا مع أبيه البيولوجي؟ هل هناك نزعة عدوانية ما تشكلت لديه تجاه الأب بسبب تخلي الأخير عنه رضيعا وتسليمه لعائلة تتبناه؟ إلى أي حد تنطبق نظرية الندم الفرويدي المنتج للثقافة والفن، على عبقرية ستيف غوبز؟ هل كان الندم لدى غوبز دافعا لخلق الندم عند الأب البيولوجي؟
تفاحة ستيف غوبز المقضومة تعكس شيئا من نظام تفكيره، وشيئا من رسائله. وهنا ستتركز القراءة على التفاحة كعلامة (سيم) منحها غوبز الدقة والمهارة، ومنحته القدرة على بث رسالة افتراضية للأب الذي تلقاها متأخرا أو مبكرا، ليس هذا هو الأمر الهام. الهام هو أن تفاحة غوبز انطوت على حمولة دلالية عارمة، لا تستطيع أن تتملص أبدا، من إشارتها الخفية إلى الأب البيولوجي البعيد والأم البيولوجية البعيدة.
هاتف جوال وهوس جماعي
مجرد هاتف جوال صغير يملأ راحة الكف، وإن كان من أهم مزاياه الأولى، هو تحرك القوائم عبر اللمس لا عبر النقر، فإنه في نهاية الأمر مجرد هاتف يشبه غيره في عوالم الهواتف الجوالة. لكن لماذا نجحت تلك العلامة التجارية بخلق هذا الهوس المحموم والاهتمام غير العادي بمنتجاتها؟ كيف استطاعت «أبل» أن تجعل من منتج جديد لها، حدثا إعلاميا عالميا تتناقله كل وسائل الإعلام في العالم؟
هناك منتجات من مختلف قطاعات الصناعة، تفوق «أبل» سعرا أو دورا في الحياة، كصناعة السيارات أو صناعة الطائرات أو حتى شركات النفط العملاقة. وهناك من نفس نوع الصناعة التي تنتجها الشركة التي خلبت عقول المستخدمين، وهي شركات لا تقل وزنا وأهمية عن «أبل»، لا بل هناك أصناف تفوقها سعرا في بعض الأحيان. لكن السؤال الملح الذي يظل عصيا على التحليل: ما الذي قدمته الشركة للمستخدمين حتى تحبس أنفاسهم بانتظار منتجاتها الجديدة؟ وخصوصا عشية العاشر من سبتمبر (أيلول) 2013، حيث انتظر ملايين الناس على الشاشات، وعشرات الآلاف افترشوا الأرصفة المواجهة لمتاجر «أبل» للحصول على منتجها الجديد.
ذكرت وسائل الإعلام، العربية والأجنبية، ومنها مواقع متخصصة بأخبار «أبل» ومنذ أسابيع، أن الشركة تعتزم إطلاق هاتف جديد، وكذلك تعتزم إصدار نسخة نهائية من أنظمة هواتفها الجوالة الجديدة، وأيضا ترقب نسخة نهائية من نظام التشغيل الخاص بالماكنتوش، المعروف بالمافاركس. ومنذ ذلك الوقت لم تتوقف وسائل الإعلام عن ملاحقة أخبار الشركة لمعرفة المزيد عن منتجاتها، كمثل تخيل الشكل الجديد للهاتف الجوال، وكمثل الأيقونات الجديدة لنظام التشغيل المطور، وكمثل الميزات الممكن وجودها في المنتج.
قلق غير عادي وترقب لا مثيل له، لا يحصل عادة إلا في أخبار مجريات مباراة كرة قدم، حيث يكون البث مباشرا والمعلومات تتدفق بسرعة حركة الكرة. لكن «أبل» لم تكن في إطار مباراة كروية. كل ما كانت تقدمه مجرد هاتف جوال وكومبيوتر مكتبي وشخصي وبعض البدع التي امتازت بها كالآيباد والآيبود. ما الذي في منتجاتها يمتلك هذا السحر الغامض الذي أسقط شركات كبرى في عالم الهواتف الجوالة وشركات كبرى في عالم الكومبيوتر؟ لماذا اطمأن الناس إلى منتجات «أبل» كما لو أنها مصوغات يدوية قام المستخدمون أنفسهم بصناعتها.. ولأنفسهم!
أغلى تفاحة
قد تكون الجملة الشهيرة التي قالها عملاق هذه الشركة الراحل ستيف غوبز عن شركته، بمثابة تسليط بعض الضوء على سر منتجاتها، إذ قال مرة في حفل يكشف فيه عن بعض المنتجات الجديدة: «هذا ليس مجرد عمل مهندسين وتقنيين بل عمل شعراء ومثقفين». قد تختصر هذه الجملة الآلية التي تعمل بها تلك العلامة التجارية التي نافست حتى شركات النفط العملاقة في الولايات المتحدة الأميركية. والواقع أن تأسيس «أبل» نفسها تم عبر نسق معرفي مميز، في الأصل. حيث يذكر تاريخ هذه الشركة أن الشعار المميز لها، وهو التفاحة المقضومة، كان في الأصل شجرة تفاح يجلس تحتها «نيوتن» عالم الفيزياء الذي خط قانون الجاذبية. ويقول تاريخ الشركة إن المشكلة كمنت في طريقة رسم اللوغو «الشعار» إذ سيظهر حجم أيقونة نيوتن صغيرا وغير مفهوم للعين. فتمت الاستعاضة بشعار التفاحة المقضومة التي ترمز إلى أبوي هذا العالم في نظريات الخلق كلها. إذن، ومن البداية الأولى والانطلاقة المميزة، كان النسق المعرفي هاجسا لدى هذا المغامر الأشهر في عالم تكنولوجيا المعلومات، ستيف غوبز، وهذا النسق، بلا شك، كان سيميولوجيا صرفا، حيث تسيطر العلامات (الدوال) على مشهدية التأثير، وبحيث إن الحمولة الدلالية المتوفرة في العلامة، تنوب عن هيكل معرفي يمتلك قواما محددا ومؤثرا ومنتظما. ومع أن غوبز، عادةً، لم يكن يتوقف كثيرا عند هذا اللوغو، بل كان يتحدث عنه بنوع من الخفة، إذ يقول عن شعاره إنه يعبر عن مجرد ولع بالتفاح بعدما كان يتناوله مع أصدقائه في إحدى جلسات العمل الأولية في مكان طبيعي كالغابة أو الوادي، فإن هذا «الاستخفاف» الظاهري لا يعبر عن حقيقة رأي غوبز بالشعار، بل كان طريقة تميز هذا الرجل المميز، الذي لا يحب الإفصاح عن طريقته بالتفكير، وخصوصا ما يتعلق منها بالأسس الفلسفية أو الأخلاقية. لا، بل كان غوبز أقرب إلى شخصية الرجل المحافظ الذي يكتفي بالعمل والتركيز الشديد في تفاصيل أي «بدعة» يريد ابتكارها. وإن أكثر لحظة يتحدث فيها هذا الرجل هي عندما يقوم بشرح علني لمنتج من منتجاته، من على مسرح يستقبل المسحورين بمنتجات شركته، كما كان يفعل مع جهاز هاتفي جوال، أو بدعته الأخرى الآيباد، وسواهما.. غير ذلك، فهو متحفظ، غائب، لا يسهل استدراجه إلى حوار تلفزيوني أو إذاعي أو صحافي. تاريخ من العمل والصمت والأسرار.
رسالة إلى الأب
شغلت شخصية أوديب الأدبَ ومنهجَ التحليل النفسي. أفاد منها سيغموند فرويد، ونحت منها نموذجا لما يعرف بنظرية قتل الأب، حيث يقوم عماد هذه النظرية على فكرة أن أبناء بدائيين قتلوا أباهم ونهبوا ملكياته للنساء والمال، ثم قاموا بأكل أبيهم، ثم أتاهم الندم على فعل قتله، فبدأوا باختراع طقوس تعبر عن ندمهم هذا، وهذه الطقوس كانت شكلا أوليا من أشكال الفن أو الثقافة. لهذا جاء الربط بين الفن وهذا الإحساس بالإثم. بمعنى أن يكون إنتاج النص الفني، شكلا من أشكال الإحساس بالإثم على الجريمة الأولية التي قام بها الابن تجاه الأب.
طبعا، لم تتوقف نظريات الأدب، بكليتها، عند فكرة قتل الأب. بل تحولت الفكرة إلى مجرد مصطلح يتضمن الإشارة إلى علاقة الفن بعلم النفس، بحيث يمكن استعمال منهج التحليل النفسي في نقد النصوص. وفرويد أعاد قراءة شخصية «أوديب» من خلال نظريته السالفة. وأصبح من الدارج استعمال مصطلح «الأوديبية» بكثرة، حتى تحولت إلى بنية معرفية منطقية، تؤدي أولياتها إلى نتائج محددة.
وبالنظر إلى طبيعة ستيف غوبز، فإن علاقته بأبيه البيولوجي اتخذت منحى أوديبيا ما، إنما ليس بالمعنى الفرويدي المنسّق للاستيلاء على قوة الأب ومن ثم الندم على قتله. بل أوديبية من النوع المعكوس حيث تحول الأب البيولوجي إلى إحساس بالإثم نقله الأب البيولوجي إلى ابنه. وإن كانت الثقافة، عموما، أو الفن، بصفة خاصة، رآها فرويد تعبيرا عن ندم الأبناء على قتل أبيهم، فتم الربط بين الإحساس بالإثم والثقافة، فإن الإحساس بالإثم الذي تسلل إلى ستيف غوبز، عبّر عنه الأخير في الابتكار، في هذا الإنجاز المدهش لمنتجات «أبل» التي تمتلك سحرا يفوق طاقتها الاستعمالية المباشرة، ولو كانت قيمة منتجات «أبل» فقط مرتبطة باستعماليتها، لانصرف الراغبون، ربما، إلى منتجات أخرى. وهو أمر أقرّت به «أبل» عبر أحد مديريها، في برنامج بثته قناة «العربية» يتحدث عن تاريخ «أبل» وشخصية ستيف غوبز، إذ قال أحد المديرين وبالنص:
لو كنت سأحمل الآيفون من أجل الاتصالات فقط، لكنت استخدمت هاتفا آخر! هناك هواتف أفضل من الآيفون في الاتصالات. انتهى الاقتباس. إذن، في منتجات هذه الشركة ما يفوق الاستعمالية، إنه التأثير الغامض في الآخرين والقدرة على تشكيل هالة من السحر التي لا يزال عشاق منتجات هذه الشركة تحت تأثيرها، بدليل أكوام الناس، الآن، في الولايات المتحدة الأميركية الذين افترشوا الأرصفة أمام متاجر «أبل» فقط للحصول على منتجها الجديد، بينما في الأسواق هناك هواتف جوالة منافسة، مثلا، للآيفون، وأفضل منها بمرات للناحية الاستعمالية والقابلية للربط والسرعة وتنوع التطبيقات. إنما لماذا تنتصر «أبل» حتى على الذي يتفوق عليها بما تنتجه هي نفسها؟!
علاقة ستيف غوبز بأبيه البيولوجي، ليست عادية كما يظن كثيرون. فلو كانت علاقة عادية، أو لو كانت علاقة غير متوترة، لكان قبل ستيف بلقاء أبيه ولو لمرة واحدة. وتذكر الأخبار الموثقة، أن الأب البيولوجي لستيف غوبز، وهو عبد الفتاح الجندلي، حاول أكثر من مرة التواصل مع ابنه، إلا أن الأخير رفض اللقاء. وكان الأب قد قام بإرسال بطاقة معايدة لابنه، ورفض الأخير أيضا الرد حتى على بطاقة المعايدة. وتشير الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام القريبة من غوبز والعارفة بحياته الخاصة، أن أخته البيولوجية أيضا، وهي الروائية منى سمبسون، قد قامت بمحاولات دفع غوبز للقاء الأب إلا أنه رفض أيضا. كل هذا يؤكد، بما لا يترك مجالا للشك، أن غوبز كان يخبئ في أعماقه إحساسا أليما من أبيه الذي «تخلى عنه» رضيعا ومنحه لعائلة تتبناه، لأسباب تتعلق بديانة الأم التي عطلت إمكانية تسجيله، رسميا. حتى الفضول لم يدفع بغوبز للتعرف على أبيه البيولوجي.
وهو المبتكر المشغول بفضول تكنولوجي لا مثيل له. إنما لم يدفعه الفضول حتى لسماع صوت أبيه على الهاتف، كيلا نقول مقابلته المباشرة. هذا الرفض القاطع للقاء الأب، حتى بعيد مرض الابن غوبز وإصابته بالسرطان، لم يسمح للأب أن يطمئن عليه هاتفيا، يشير إلى إحساس عارم عند غوبز ضد حقيقة الأب. وإن كان موقفه هذا مجرد امتنان للعائلة التي تبنته، وهو ما قاله مرة إن أبويه هما من ربياه، فما هو المبرر للرفض القاطع حتى للرد على بطاقة معايدة أو مكالمة هاتفية أو لقاء مباشر؟! من الواضح أنه موقفٌ من الأب الحقيقي، وهو موقفٌ عدواني صامت تمثّل بإنكارٍ لوجوده في الأصل وعدم الاعتراف بحقيقته. وبعدما تبين أن الأب، هو الآخر، ليس شخصا عاديا، بل هو من نخبة المجتمع، فهو حائز شهادة دكتوراه وعمل أستاذا جامعيا. كما أنه ميسورٌ ماديا ولديه أعمال تجارية تخصه من خارج العمل الأكاديمي، وهو ما قاله الأب مرة في دفاع مسبق عن نفسه عندما لمح إليه البعض بحجم ثروة ابنه الذي يود لقاءه والتعرف إليه، فقال: «لدي أموالي الخاصة وأردت فقط التعرف إلى ابني». بعدما تبين أن الأب من النخبة، لم يكن أمام الابن سوى أن يتجاوز نخبوية الأب بنخبوية تخصه وحده.
مع أن المعلومات لا تشير بشكل قطعي إلى الزمن الذي عرف فيه ستيف غوبز أنه ليس ابنا حقيقيا للعائلة التي تبنته وربّته، فإن هناك احتمالا قويا بأن تكون العائلة قد أقدمت على إخباره بذلك في وقت مبكر، أولا لسبب قانوني، ليكون على علم بالسلالة التي انحدر منها، وثانيا لسبب مادي، وهو أن العائلة التي تبنته كان وضعها المادي سيئا بصفة عامة. بدليل معرفة الأب بأن هذا الولد هو ابنه، فكيف تعرف إليه؟ لا شك أن هناك من اتصل به وأخبره أن هذا الذي على الشاشة هو ابنك الحقيقي، أو أن هذا الذي على ورق الجريدة هو ابنك، أو الذي ابتكر هذا هو ابنك. وبسبب سهولة التواصل مع الأب وإيجاده عند الطلب فأغلب الظن أن التواصل بين العائلة المتبنية والأب كان دائما. ولم تذكر المعلومات إن كان الأب البيولوجي قد قدم مساعدات مادية للعائلة التي تبنت غوبز، وهي مسألة غريبة وغير قابلة للفهم. حتى الأب البيولوجي ذاته لم يدّع ذلك، ولم يخرج شيء من عائلة التبني يشي بذلك.
الأب البيولوجي والابن السيميائي!
مع أن التفاحة المقضومة تختصر فكرة الخلق، فإن لها مدلولا أقرب وأكثر استعمالية، وهو اشتمالها، في العمق، على فكرة «الأب» و«الأم»، في الأصل، قبل أي مدلول آخر مهما علا شأنه. وقد حاول غوبز أن يتكتم، في الواقع، على معنى التفاحة المقضومة كثيرا وكان يخفف من مدلولاتها بتبسيط مقصود، وأيضا، ليخفي شبكته السيميولوجية المعقدة والضاربة في العمق عنده. كان غوبز يخاف من إدراك المتربصين لمعنى قضم التفاحة، فبسط الأمر على أنه مجرد تعلّق بالتفاح! لا بل إن المبرر الذي ساقه تاريخ الشركة عن تغيير اللوغو الأصلي الذي كان شجرة تفاح يجلس تحتها نيوتن، بأن السبب بالتغيير هو صعوبة إظهار أيقونة الفيلسوف تحت أيقونة شجرة التفاح إذ سيبدو صغيرا وغير واضح للعين، لم يكن مقنعا على الإطلاق، فكيف لروّاد في تكنولوجيا الاتصالات وفن الغرافيك أن يصعب عليهم الجمع بين شجرة ورجل في لوغو واحد؟! بالتأكيد كان غوبز يريد التفاحة وحدها، والمقضومة حصرا، وحصل معه، في ذلك، ما قاله عملاق النقد الأدبي هارولد بلوم بما سماه «عودة الموتى» حيث تظهر الآثار الأدبية التي شكلت شخصية الأديب وأثرت عميقا في تجربته، بعدما كان قد أخفاها طوعا عبر ما سماه هو أيضا «مرحلة التكتم». وهو ما حصل بالانتقال من شجرة تفاح يجلس تحتها فيلسوف، إلى تفاحة مقضومة عاد معها «الموتى» بقوة، للظهور، فما كان متكتما عليه بالشجرة التي تظلل فيلسوفا، أفصح عنه بالتفاحة المقضومة، التي تقول، بكل سيميولوجيتها، حمولةً دلالية واضحة هي آدم وحواء، الأب البيولوجي والأم البيولوجية.. لقد كان غوبز خاضعا لتأثير هذين الغائبين البعيدين والمؤثرين عميقا في تكوينه، فأطلق نداءه السيميولوجي في تفاحة تتنقل بين الابتكارات.
إن سيطرة التفاحة، سيميائيا، على لا وعي غوبز، لم تترك فقط أثرا على تكوين الابن النفسي والثقافي، بل شكلت لديه حافزا عارما باتجاه تفعيل قيمة الأيقونة، التي هي امتدادٌ منطقي سيميولوجي يجعل للعلامة، وحدها، حمولة دلالية شاملة. فينتقل الخطاب فورا، من العلامة (الأيقونة) إلى الوعي، دون خطاب وسيط، دون نص. تتحول العلامة إلى نص، تكون هي المرسل، وهي التي تتلقى ذاتها، في لا شعور المستخدم. فكل النماذج البدئية، موحدة، بغض النظر عن الرفض اليونغي (من يونغ) لفكرة النموذج البدئي الفرويدي، والرد عليها بالنموذج الفردي، إلا أن كل الدراسات الأنثروبولوجية التي اتفقت على النموذج البدئي، ترى في النموذج قدرة على الانبثاق من اللاوعي في أثر موحد ومدلول موحد بين كل الثقافات والحضارات حتى المتباينة منها، ولعل على رأس تلك العلامات، أو النماذج البدئية، تقف التفاحة على رأسها، إلى جانب الأفعى أو النار أو الماء، كما يعلم الجميع. ومن أشكال التعبير العَلامي، في «أبل»، نجد أيقونة الأسد، كإشارة إلى نظام التشغيل الذي اشتهرت به وباسم الأسد ذاته. وليس من المصادفة أن «أبل» ستقدم على أشهر تغيير في أسمائها وأيقوناتها، بعيد رحيل ستيف غوبز، التفاحي الأسدي. إذ أشارت الشركة إلى أنها أصبحت قريبة من إشهار نظامها التشغيلي الجديد وباسم مافاركس، حيث تخلت عن الأسد في تسمياتها، واستبدلته باسم مدينة أميركية.
كما أن الأيقونات ستتغير وتقلل من تشابهها مع الواقع، مما أثر استياء واسعا عند الأبليين حتى قبل صدور النسخة الأخيرة من نظام التشغيل الخاص بالهاتف الجوال. وبنفس الاتجاه يسري مدلول نظام التشغيل ذاته، فنظام الماكنتوش مغلق ومن العسير قبوله لأي تطبيق، وهو يمثل دائرة مغلقة على نفسها، بحيث يريد المصنّع أن تكون منتجات الشركة أسرة واحدة لا تقبل دخيلا. والدائرة المغلقة لنظام التشغيل هذا، والذي هو، هنا، نظام تفكير، هو شبكة علاماتية متراصة، متحفظة، تمارس التأثير ولا تتأثر هي، إلى درجة أن الماكنتوش عندما يقبل بتشغيل تطبيق من خارجه، فيحجمه ويسبغ عليه من علاماته الخاصة، ما يمنع التطبيق «الدخيل» من التعبير عن نفسه مستقلا أو منفصلا. دائرة مغلقة تبدأ من تفاحة مقضومة، وتمر بنظام تشغيل (تفكير) مغلق، وتنتهي بالتأثير المفتوح للأيكون، للعلامة، للترميز الافتراضي المضغوط إلى درجة الوجودية الكاملة.
الأيقونة واقعٌ حقيقي مصغّر
عند هذه النقطة نقترب من تلمس سحر عالم «أبل» مع ضرورة التذكير، مجددا، بأنها في الجانب الاستعمالي الاتصالي، لم تكن الأفضل باعتراف من قلب الشركة ذاتها، كما ذكرنا آنفا. وأهمية نقل اعتراف أحد مديري «أبل» أنه لو أراد «الآيفون» فقط للاتصال لاستخدم هاتف آخر، تفيد الموضوع لجهة أن في هذا المنتج ما هو خارج الاستعمالية المباشرة، الذي يبدو، هنا، في قوة الأيقونة وبروز العلامة كطاقة دلالية بارزة تنتقل فورا دون وساطة نص، حيث العلامة وحدها هي النص وهي أداة النقل وهي التي تتولى تفعيل نفسها في اللاوعي.
لعل الشكوى المبكرة التي أطلقها مدمنو منتجات «أبل» على نوعية الأيقونات التي ستظهر على الآيفون الجديد، والمعروف بالآيفون 5 إس وسي، هي التي تختصر سحر هذه الشركة، التي جعلت من العلامة حمولة دلالية مفعمة بالقوة والتأثير. لقد اشتكى محبو هذه المنتجات، حتى قبل صدور النسخة الرسمية من النظام الجديد، من شيء واحد دون أي شيء آخر: الأيقونات الجديدة للمنتج الجديد، هي مجرد رسوم تعبيرية لا تحمل قوة الأيقونة القديمة التي سحرت لب الأبليين (معتنقو أبل!). مما يكشف الأثر العميق الذي تولته منتجات الشركة في مادية الأيكون، ونزعتها نحو تقديمه كما لو أنه حي يلمس ويرى. ففي مختلف أيقونات الآيفون تظهر، مثلا، أيقونة الكاميرا كما لو أنها كاميرا حقيقية مصغّرة، وتظهر البوصلة تماما كما هي في الواقع كأنها بوصلة حقيقية بالضبط، ليأتي التاتش «اللمس» على هذه الأيقونة ليكمل سحر العلامة كما لو أن اليد استخدمت كاميرا مجسّمة واقعية، أو بوصلة مجسمة واقعية، أو روزنامة موضوعة على سطح المكتب، وسوى ذلك من أيقونات «أبل» التي جعلها «التاتش» واقعا ملموسا. لذلك أحس الأبليّون أن ثمة ما خسروه، في العمق، لا اتصالا أو خدمة أو تطبيقا، إنه الآيكون، العلامة، الواقع الافتراضي الذي لم يعد افتراضيا والدليل: انظرْ والمسْ، فقط!
ستيف غوبز بين تفاحتين
وإن كانت التفاحة الفلسفية قد قضمت من جهة المرأة، ثم توالى فعل الخلق، فإن غوبز جعل تفاحته مقضومة ذاتيا، ثم تتوالى أفعال الابتكار. قضم التفاحة، بالنسبة لغوبز، فعلٌ أولي، كما أولية قضم المرأة للتفاحة الفلسفية. فإن كانت الأخيرة كمنت وراء فعل التوالد، فإن غوبز دفع باتجاه فعل التوالد الابتكاري، هذه المرة، لا البشري. وإن كانت التفاحة الفلسفية القديمة، لم تورّث غوبز سوى أبٍ بيولوجي غائب، فإن تفاحته الابتكارية أورثت أبا واقعيا موجودا، هو ستيف غوبز الذي لم يتخلّ عن متواليات قضمته الأولى، حتى آخر نفس من حياته. الرابط الذي يجمع بين التفاحة الفلسفية والتفاحة الابتكارية، هو مجرد العلامة، السيم، أو الأيقونة التي تولت الحمولة الدلالية المسيطرة على المستخدم. التفاحة الفلسفية جعلته مصرا ورافضا بشكل لم يرجع عنه إلى وقت وفاته، للقاء أبيه. أما تفاحته السيميولوجية فقد جعلته مصرا على الابتكار والكشف في المخزون الرمزي الهائل الذي تنطوي عليه هذه القضمة التي أنتجت إحدى أكبر شركات العالم.
لقد تحول السيم، العلامة، إلى نداء بصري أطلقه الابن باتجاه من يلتقطه، لعله الأب الذي سيكون كغيره على الأقل انسحارا بالأيقونة، وبالتفاحة التي من الممكن أن تذكر الأب المتخلي عن ابنه، من خلال غزارة المدلول الكامن في التفاحة المقضومة: الأب الغائب والأم الغائبة. وفي اللحظة التي سيستخدم فيها الأب منتجا أبليا معينا لعل التفاحة التي سيجدها في أي جزء من أجزاء المنتج، تدفعه للتذكر الإجباري بأن قضم التفاحة، في وقت ما، أورث ابنا بيولوجيا هو الذي صمم علاماته الغزيرة التي ما إن تلمسها أصابعك حتى تتحول إلى واقع!
مجرد لمسة، تفجّر العلامة، تعيد العلاقة بين الافتراضي الماثل والحقيقي الغائب. لمسة فقط ويعود الابن الضال إلى جنة الأب. هي نفسها سفينة هرمان ميلفل التي جزم بأنها ستتوقف يوما ما في مياه الأوقيانوس لتلتقط ضالا آخر. وهو النداء الذي أطلقه بول فاليري للآباء البعيدي الغور عندما أصبحوا هم «الأرض» وأربكوا خطاه:
أيها الآباء البعيدو الغور
تصبحون أنتم الأرض، وتربكون خطانا..
______
* صحافي سوري.
مجلة(المجلة).
مجلة(المجلة).