حكايات صغيرة


*بسمة النسور


التسول أقدم مهنه في العالم، وبات مشهد المتسولين في معظم عواصم العالم مألوفا ومتكرراً، ومن الاستحالة على أي جهة، رسمية أو أهلية، مهما بلغت براعتها، أن تحدّ من انتشار هذه المهنة، السهلة الشروط شكلياً، المنظمة بعقلية إجرامية محترفة، في العادة، من عصابات استباحة وامتهان الكرامة الإنسانية. ولأن الدهشة في الاستثناء كلما كان نادراً. ولكي لا نفقد الأمل تماماً، أسرد، تالياً، حكايات صغيرة من عواصم عربية مختلفة، في أزمان أكثر بهاء.
صاحت بائعة المناديل الورقية بأعلى صوتها: لأ. وظلت تكرر الكلمة، بغضب من تعرض للإهانة الشديدة، فيما بقيت يدها مشرعة في الهواء، تحمل علبة مناديل، في إصرارٍ عجيبٍ، ينم عن أنفة وعزة نفس، لا يحدّها فقر أو جوع، ما أجبر الزميلة ذات القلب العطوف، على العودة، والحصول، مرغمةً، على ما دفعت ثمنه: علبة مناديل جيب، وقد تفهمت رسالة السيدة التي وصلت إليها بليغة، لا تقبل اللبس، وأدركت، على الفور، أنها بصدد امرأة صابرة، هدّتها السنوات، تكسب قوتها بالعرق والضنى ليس أقل! 
كانت نيات الزميلة في غاية النبل والإنسانية، رأفت لحال تلك السيدة السبعينية، المتعبة التي تفترش الأرض، سعياً إلى تحصيل رزقها الضئيل في ليل القاهرة المضيء، على الرغم من لفحة البرد في بقعةٍ، تتزاحم فيها الأقدام المتجهة إلى خان الخليلي في حي الحسين. رغبت الزميلة في التصدق على العجوز القاهرية، فقدمت ما جادت به نفسها، ولم تحفل بالحصول على علبة المناديل التي لا تحتاجها أصلاً. خبأت العلبة في حقيبة يدها، بعد أن ربتت على يد العجوز العنيدة، باعتذار صامت، شابه إعجاب كبير بالروح الحرة غير القابلة للانكسار. 
حكاية شبيهة، كان زميلٌ يتسوق، وزوجته، في سوق الحميدية الشهير في قلب دمشق أيام عزها، حيث يتكثف وجود باعة صغار، لا يتجاوز عمر أكبرهم عشر سنوات، يلاحقون المارة بمثابرة، عارضين بضائعهم الخفيفة، تتصدّرها دزينات جوارب رديئة الصنع، يزعمون للزبائن أنها نخب أول، ومن يشترِها فلن يندم، يتميز هؤلاء الصبية بقدرة غير عادية على إثارة ضجر ضحاياهم من فرط الإلحاح. هذا ما حصل مع الزميل الذي دفع لصبي منهم ثمن دزينة جوارب، لم يحفل كثيراً في الحصول عليها، أملا في التخلص من عبء الإلحاح، غير أن الصبي، المنتفض غضباً، لاحقه بضراوة أكبر في أرجاء السوق، ولم يتركه يمضي في سبيله، قبل أن يرغمه على أخذ الدزينة، في استكمال طبيعي لشروط البيع والشراء، معترفا له، بعصبية، بأنه بائع حربوق، لكنه ليس متسولاً! 
وفي صباح يوم عماني ساحر، غزير المطر، لفه ضباب حميم، وتراكض فيه مشاة متلفعين بملابسهم الثقيلة، تفادياً لرشقات الماء التي يحدثها عبور سيارات سريعة. وعند إشارةٍ ضوئية، لمحت شاباً يرتدي معطفاً، كان يغطي، بحرص كبير، جرائده المعرضة للبلل، بكيس بلاستيكي، متحدياً سطوة المطر، مصراً على الانتهاء من حمولته الورقية، على الرغم من الجو العاصف. فتحت النافذة، وأخذت الجريدة، ونقدته ديناراً، وقلت له: خلص مسامح بالباقي. .. والباقي خمسة وسبعون قرشاً، أي ثمن ثلاث جرائد. ومهما مضى بي العمر، لن أنسى، أبداً، النظرة المؤنبة لذلك الفتى المجروح بحسن النيات، وهو يصر على إعادة الباقي، ويرميه، باستغناء عزيز، على تابلوه السيارة، قبل أن يركض بخفة، مستجيبا إلى زمور سيارة أخرى. 
مجرد حكايات عابرة تحدث أحياناً، غير أنها تؤكد، بما لا يقبل الشك، على أن الخبز قد يغدو غير ضروري إلى الحد الذي نتوهمه. ذلك أنه بالكرامة وحدها ينبغي أن يحيا الإنسان، وهي ما ينبغي أن نتوق إليه كفاف حياتنا. 
_______
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *