*ربيعة المنصوري
( ثقافات )
ساكنة الحركات ، صامتة ، منزوية ، جلست ليلى في الصف الأخير من القاعة الجميلة ، حيث كانت تعرض لوحات موسيقية راقية ، سافرت مع الإيقاعات المتفجرة إلى حيث كانت أمس ، بجوار أميري وبحضرة سامية ، تذكرت خطوط البارحة ، فمشت تقطع الطريق ، متسلقة الذكريات الحنونة …. لازالت تتذكر جيدا كيف التقيا….ذات صباح صيفي بارد، كان كعادته دائما، يجلس في المقهى المجاور، يشرب قهوته الصباحية ويكتب…. لم تكن تعرف ماذا يكتب ولكنها كانت تعرف جيدا أن الكتابة جزء منه وأنها لن تراه أبدا إلا وسط أكوام من الأوراق البيضاء، وكانت تستسيغ الأمر وتعتبره شيئا خاصا.
عندما جلست غير بعيد عنه، اصطدمت بنظراته العارفة، وكأنه كان يحمل آلاف الهموم معه…. كانت بداية الرحلة القمرية، فلقد توقف يومئذ عن الكتابة وعن احتساء القهوة، ليظل مبحلقا في الفراغ، لا يقطع شروده إلا اختلاس النظر إلى من كان يبحث عنها طوال الوقت.
ابتسمت ليلى وهي تتذكر هذه الأحداث في عتمة القاعة وصمتها وتحت أجنحة موسيقى رفيعة، تنبعث من الخشبة المضيئة….لعل اللقاء الثاني كان صدفة غريبة، فقد كانت عائدة من الجريدة حيث تعمل كصحفية متمرنة عندما رأته يقف أمام سيارته…. شعرت بارتباك حقيقي ولكنه لم يهدر أبدا لحظة اللقاء فقد تقدم نحوها وكأنه يعرفها، ليقول بكل عفوية….. إلى أين أنت ذاهبة ؟
الشبيه يبحث عن شبيهه في قلب الظلام، و الأرواح تلتقي صدفة، ولكن الأرواح تكون على علاقة بعضها ببعض… فكرت هكذا يومئذ ، لأنها لم تشعر أبدا أنه كان بعيدا فقد أحست أنها كانت تحب كل ما يحب وترغب في كل ما يريده ، كان نسخة منها وكانت نسخة منه ، قال سعيدا …. الكتابة جزء من جسدي نشيدها تعزفه عروقي ويكتب بدمي…. نعم الكلمة تخرج من بين الدم واللحم …..ترجمة الأعماق هو عملي اليومي في لوحات مختلفة لمحاولة الوصول إلى التغيير لمحاولة الكشف عن مكامن العيوب.
كان ما يقوله يسعدها، يدخل بها إلى نهايات الأحلام والمتمنيات التي عاشت تبنيها… يسافر بها إلى القمم العالية التي كانت تحبها … قمم الجبال التي كانت تعشق قصدها ، قمم الأطلس البيضاء أيام الشتاء فقد كانت تشعر دائما بنقاء خاص يسود الأعالي ، نقاء لا تلطخه الأقدام الكثيرة ولا تدنسه الأيدي القذرة…. نقاء، وصفاء وبياض……حتى نهايات البيوت المطلية بالجير الأبيض الناصع كانت تستفز أعماقها لتجلس طويلا في عليائها، تتأمل المحيط، تقرأ النفوس والحجر، فتلبسها الحيرة والسؤال…..
بقي اللقاء الأول محفورا في الذاكرة، موشوما في الجسد، كل ما قيل كانت تتوقعه فقد كانت تحسه قريبا منها، بل قطعة منها.
نغمات هادئة تتسرب إلى أذنها ، موسيقى رومانسية تخترق الحواجز المكانية والزمنية لتعيد إليها مشاهد ترسخت في ذاكرتها ولترحل بها مرة أخرى إلى أقاصي الشمال ، تستغيث بالذكريات ، تستنطق الصمت ، تسابق الريح ، يقفز وجهه الأسمر مرة ثانية متمردا كالمطر ، مشاكسا وفوضويا كالتراب ….يكبر التعرف ليصبح مودة عميقة تسدل ظلالها على ربوع الجوار ليصبح الكون جميلا، حلوا، لذيذا… يغمر الفرح الأرجواني أعماق ليلى وتكتسحها السعادة التي لم تكن تعرف لها اسما خاصا…..
كالبياض الثلجي تصبح تصبح الأيام وبلون الأزهار البرية تصبح الساعات الأولى من الصباح ، تختلط الأحاسيس بلغة الفجر الخزفي ، تعطر الأعماق بنسمات باردة ويسطع الضوء النافذ من خلف النافدة ليشمل كل الأعضاء …. زقزقة العصافير تمضي لتؤسس للحظة الانطلاق …. تمر الدقائق متتابعة ليأتي الشذى بألوان الطيف ، تغمر ليلى أحاسيس متضاربة ، خليط من من الخوف والأمان ، وكأنها لأول مرة تقابل الطوفان ….
صوت قوي يقطع عليها لحظات النقاء ، تحركت من مقعدها المريح ، تنظر ما الأمر ، تصفيقات مدوية …. الكل كان يصفق وبعضهم وقف يهتف ، يبدو أن الحفل الموسيقي انتهى ….. بدأ الناس في الانصراف واحدا تلو الآخر، وبقيت هي أسيرة القاعة المظلمة، الضوء الخافت، جمهور المتفرجين… كل هذا الفضاء حرك ماكان راسخا في جسدها وجعلها تسافر إلى عوالم أخرى ، عوالم لا تدخلها إلا مرات قليلة ، حاولت أن تسترجع المشهد لكنها لم توفق أبدا في كسر الجدار السميك الذي كان يفصل بين الأمس واليوم ، بين الحلم والواقع ، بين ماتريد وماهو موجود ……
سمعت صوتا قريبا يخاطبها …
لقد انتهى الحفل يا سيدتي…
ابتسمت في حزن ووقفت في انكسار ثم قالت بنبرة خافتة :
هل يمكنني أن أعلاف ماكان اسم المقطع الأخير من السيمفونية ؟
ارتسمت الدهشة على وجه الرجل وكأنه يقابل امرأة من عالم آخر ….ابتسم ثم قال: أظنك تقصدين مقطع ـ نشيد البجع ـ لقد كان آخر ماعز فت الفرقة.
شكرا سيدي …. تمتمت بسرعة وهي تمشي نحو الممر الخارجي …. نشيد البجع… لقد كان نشيدا حقيقيا ولكنه مر بسرعة رهيبة، غاب فجأة كما ترحل البجع فجأة…. عزف لحنا فريدا ثم رحل .
______
*كاتبة من المغرب