مقاومة … بوجهين


*عبده وازن


كان إداورد سعيد يردد معادلته الشهيرة الجامعة بين «ثقافة القوة» و «قوة الثقافة»، وغايته أن الفلسطينيين والعرب يجب عليهم أن يقاوموا إسرائيل ثقافياً، وأن تكون هذه المقاومة وجهاً رئيساً من صراعهم مع العدو الصهيوني. وساهم سعيد نفسه، مثل مثقفين فلسطينيين وعرب، في ترسيخ هذه المقاومة القائمة على «قوة الثقافة» عالمياً وفي وضع أسس متينة لها. في المقابل، شرع مثقفون فلسطينيون في الداخل المحتل بإعلان هذه المقاومة، مواجهين إسرائيل في عقر دولتها الغاشمة. ومثلهم فعل مواطنوهم المنفيون ورفاق عرب عززوا ثقافة المقاومة الفلسطينية.
في العام 2002، شارك محمود درويش في فتح بوابة فلسطين أمام كتّاب أجانب كبار تمت دعوتهم إلى فلسطين بغية كسر الحصار الكبير المضروب على الأرض كلها وفضح الاضطهاد العنيف، العسكري والنفسي، الذي يمارسه الاحتلال على أهل الأرض. كان في طليعة الأدباء العالميين الروائي البرتغالي النوبلي جوزيه ساراماغو والنيجيري النوبلي أيضاً وول سوينكا، وحينذاك أثار ساراماغو حفيظة الدولة العبرية ومثقفيها بتصريحه الشهير الذي قال فيه: «ما يحصل في فلسطين هو جريمة يمكننا أن نقارنها بما جرى في أوشفيتز».
بوابة فلسطين ما زالت مفتوحة أمام الكتاب والمثقفين الأجانب، ويجب أن تبقى، وهذا ما يقلق الإسرائيليين ويؤرقهم. إنها منظمة «احتفالية فلسطين للأدب»(بالفست) التي ما زالت تصر منذ تسعة أعوام على فتح بوابة الأرض كل سنة أمام كتاب ومثقفين أجانب، تدعوهم إلى لقاء الجمهور الفلسطيني المحاصر والمعزول خلف الحواجز وجدران الفصل العنصري، وتنظم لهم جولة على المدن المحررة والمحتلة لإحياء الأمسيات وعقد الندوات طوال خمسة أيام. والجولة التي انطلقت أول من أمس تشمل نابلس والقدس وحيفا ورام الله، وفي مقدم المدعوين الأجانب الكثر هذه السنة: الروائي الجنوب أفريقي النوبلي جي. م. كويتزي والإيرلندي كولم ماكان والأميركي باري لوبيز، عطفاً على أسماء فلسطينية وعربية بارزة.
وعشية انطلاق «احتفالية فلسطين للأدب» في الأرض المحتلة، كانت بيروت تحيي احتفالاً ثقافياً وسياسياً فريداً في مسرح المدينة أطلق المنظمون خلاله «العريضة الكبرى» للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وتخلله تطبيق برنامج الهواتف الذكية لمقاطعة المنتجات الداعمة للصهيونية. وهذه بادرة مهمة جداً تصيب من العدو نقطة مؤثرة، شرط أن تتحقق هذه المقاطعة فعلاً. هذا الاحتفال الذي نظمته مؤسستان مدنيتان (حملة مقاطعة داعمي «إسرائيل» واللجنة اللبنانية للمقاطعة) يرد إلى المقاومة وجهها الحقيقي، العلماني والثقافي، ويؤكد هويتها الوطنية بعدما أسبغ عليها حزب الله طابعاً طائفياً، بل مذهبياً شاملاً. والجميع يذكر أن المقاومة كانت منذ انطلاقها في مطلع الثمانينات، علمانية ويسارية وبعيدة كل البعد من الطائفية والفئوية.
لعل الأمثولة التي يجب استخلاصها من هذا الاحتفال البيروتي وبرنامجه السياسي والفني و «التقني»، هي أن المقاومة العسكرية لا يمكنها أن تنفصل عن المقاومة الفكرية والثقافية والعلمية وإلا فهي تظل ناقصة ومبتورة. وهذا ما لم يفهمه حزب الله، الذي حصر المقاومة داخل جدران أيديولوجيته الدينية وربطها أيضاً بخلفية فقهية معروفة، قاطعاً الطريق أمام أي مقاومة أخرى، علمانية أو وطنية… وما يدعو إلى الاستغراب، أن المقاومة المذهبية وجهّت بوصلتها أخيراً نحو سوريا، نحو «العدو» السوري، متناسية الأرض المحتلة والعدو الصهيوني، جاعلة من تاريخها النضالي ذكرى تستعيدها خطابياً وحماسياً. أما دفاعه عن نظام الصمود والتصدي، النظام المجرم والمستبد الذي لم يطلق رصاصة على العدو بعد العام 1973، فهو أصبح بمثابة فضيحة الفضائح.
يتحدث الكاتب سماح إدريس في بيان المقاطعة اللبنانية عن شارع الحمراء في بيروت وكيف ارتدى من جديد حلة المقاومة الوطنية والثقافية للعدو الإسرئيلي، أنها المقاومة الحقيقية المفتوحة أمام كل اللبنانيين.
__________
*الحياة

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *