هانم الشربيني *
( ثقافات )
كل الدنيا لا تساوي وجع قلب امرأة.. الوجع الذي يصيب روحها في مقتل، الذي يدخل جسدها فتشهد كل قطعة فيه على أنه وصل إليها. تصبح العين الشباك الوحيد للحزن، الذي يطل على استحياء. يدق القلب بما يحمله من حقائق وأسرار ومعان كدقات ساعة حائط متعطلة. يصبح اللسان عاجزا عن نطق أي شيء. تصبح النفس كما ولدت وحيدة شريدة، لا تداويها محبة صديق ولا قرب حبيب.. وحدها تعيش في ملكوت لا يعلم تفاصيله ولا أسراره غير خالقه.. نقطة.
***
تضع أم ياسين الشهيرة بزينب قلمها على مكتبها الصغير الذي تحيطه الكتب من كل اتجاه، وتقبع فوقه أباجورة قديمة تشبه أعمدة الإنارة في الشوارع العامة، مودعة بذلك السطور التي كتبتها لتنشر كمقدمة في مذكراتها الشخصية التي تحمل عنوان «نصيبي من الحياة». تترك هذه الكلمات وسط أوراقها المتناثرة على المكتب.. تحاول القيام بصعوبة من على الكرسي الخشبي القديم، الذي تفصله عن المكتب خطوات قليلة وكأنهما توأمان متلاصقان من الأرجل.. تترك الكرسي وتذهب للبلكونة التي تقع في ظهر المكتب الذي تقف بجواره ستارة ذهبية اللون من قماش الشيفون القديم.. أثناء مرورها تتساقط ذرات عديدة من التراب، الذي قرر أن يسكن بيتها كما شأن معظم حملة الشعر الأبيض غير القادرين على عناء النظافة اليومية للجدران المرتفعة.
***
تنظر من الشرفة.. تعلم أن الحارة ضيقة، وحتما ستصطدم بنفس الوجوه في البيوت المقابلة، وستتعرض لنفس السيناريو العبثي اليومي من الأحاديث العابرة من الجيران، لكنها تحدث نفسها قائلة: «لا تهمني كل هذه التفاصيل، يكفيني النظر لأعلى لتلك المساحة الفارغة.. إنني أشتاق لرؤية السماء.. أريد النظر لمساحة من التفاصيل الأخرى.. أريد أن أكتب قصيدة شعر جديدة من وحي السماء المطلة على البيوت الضيقة.. أريد أن أناجي الله.. أريد أن أستريح بالنظر لمساحة شاسعة.. أريد أن أرى الله كما أحب أن أراه، وبمفردي بعيدا عن التنظيم الذي التحقت به منذ تخرجي في كلية الحقوق وحتى زحف الشيب إلى رأسي». وتتساءل بلا إجابة: «هل يكفي ضياع عمر كامل من أجل الالتزام بقاعدة الإمام: كونوا كالشجر يرميه الناس بالحجر فيرميهم بأحسن الثمر؟!».
تجلس على كرسي البامبو القديم، وتمد يدها للسماء.. تشعر للحظات بأن وجهها علق وحيدا في السماء وسط السحاب الأبيض.. تناجي الله قائلة: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا أعلمه وأعوذ بك مما لا أعلمه.. اللهم استرني فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك».
***
يرن جرس المنزل فتهبط يدها قائلة ختام دعائها اليومي: «اللهم صلِّ على محمد في الأولين.. وصلِّ عليه في الآخرين.. وصلِّ عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين». تتوجه للباب وتفتح بسرعة.. على الباب أمل، تلك الفتاة التي تحتفظ ببسمة دائمة على وجهها، والتي اعتادت زيارتها كل أسبوع بتكليف من دار نشر كبيرة لتسجيل مذكراتها الخاصة، والتي وقع الاختيار عليها لقيامها برسالة دكتوراه تتناول أدوار النساء في الحركات السياسية الإسلامية بين الاعتراف والنكران.
أمل: «صباح الخير يا ماما».
زينب: «صباح النور.. تفضلي».
***
أمل تجلس في المكتب الذي يفصله عن الباب شبه ممر ضيق.. تخرج جهاز التسجيل وتكتب على الشريط من الخارج «الحلقة الثانية بعد المقدمة»، وتضع القلم على الأريكة الزجاجية التي تقع أمام الكرسي.
زينب تتوجه للمطبخ الذي يجاور باب الشقة.. مرتب تماما، كل شيء فيه يحتفظ بمكان ثابت لا يغادره، ويعتبر أجمل ما فيه الشباك الذي يطل على حديقة قصر القبة الرئاسي، والذي اعتادت النظر منه لتذكر حياتها القديمة، أو على وجه الدقة الساعات السعيدة من حياتها مع زوجها الراحل الذي تملأ صوره كل ركن في البيت، وتحتفظ له بتقدير خاص.. فعبر ذلك الشباك كانا يطلان معا على أشجار القصر المتعالية المسجونة داخل أسواره المرتفعة. تلتقط برشاقة عجوز حكيمة زجاجة عصير معلبة من داخل ثلاجتها شديدة النظافة والتنسيق، التي تحتفظ في جوانبها بشكل دائم بالمشروبات الغازية، ويقبع باستمرار على أرففها طبق الترمس الذي تحب صحبته وهي تقرأ في الكتب التراثية والروايات الأدبية دائمة التردد على صفحتها، بعدها تتجه للمكتب.
***
تدخل زينب إلى المكتب، فترتسم على وجه أمل ابتسامة، وترفع يدها من على الورقة التي تكتب فيها. تسحب الورقة البيضاء من تحت القلم قائلة: «هكذا أرى زينب الإمام»، وتقرأ بصوت محب: «زينب الإمام ليست المرأة التي تقرأ لها المقالات في الصحف، التي تدافع بمنتهى القوة عن أفكارها.. ليست تلك المرأة التي قررت مناسة الرجال في العمل السياسي منذ الخمسينات. لم تكن بداياتها الحقيقية منذ دخولها كلية الحقوق، وإنما منذ كانت طفلة تتمرد وتقرأ وتحلل. كانت تعيش كابنة طبقة متوسطة بين قصور الملك واستراحاته في الشرقية، لكن ذهنها كان يدور في ما يجري داخلها. كانت تخفي تمردها في الكتب وتفرغ طاقتها في حفظ القرآن وتلاوة آياته، وعبر أثير الراديو التصقت أذناها بأحاديث الحكيم وطه حسين وبنت الشاطئ.. إنها حقا بنت كل هؤلاء الكبار. واحدة ممن التصقوا بتراب مصر وأحداثها وتنقلاتها من يد حاكم لآخر.. عاشت الملكية، وسجنت في عهد عبد الناصر وأحبت عصره.. وتوالت عليها الأيام لتحتفظ بذكريات خاصة وأسرار كانت الوحيدة الشاهدة عليها».
زينب الإمام تعلق بصوت حنون قائلة: «يا ابنتي، التاريخ ليس هو ما يعرفه الناس، وليس هو التاريخ الرسمي المزور، وليس هو الشهادات الشخصية المنحازة.. التاريخ مجموعة زوايا كاملة لحدث، ولمجموعة أشخاص وليس شخصا واحدا. الناس دائما يرون الحقيقة بأعينهم لا بعين الحقيقة. حديثك هذا ذكرني بقصة عن العميان الذين تحسسوا فيلاً، فقال أحدهم إن الفيل يشبه المروحة، وقال آخر إن الفيل خرطوم لين، وقال واحد إن الفيل أربعة أعمدة غليظة.. كل واحد كان يصف ما لمسته يداه.. بينما المبصر يرى كل شيء، ويدرك أن كل هذه أجزاء من فيل. وبالنسبة لي ماذا يعرف الناس عني؟.. إنهم يطلقون علي الكاتبة والسياسية، ويحللون آرائي وأفكاري، لكنهم أبدا لم يكونوا معي داخل سجني، ولا عندما حرقت شقتي بحي المهندسين، المغلقة الآن.. ولا شعروا بي عندما فقدت زوجي، ولا عندما سافر ابني الوحيد إلى ألمانيا، ولا عندما كنت سأفقد حنجرتي، ولا عندما كنت بين الحياة والموت أجري عملية في القلب. دائما الناس يرونني بين النجوم والشخصيات السياسية البارزة. يا ابنتي ذكرياتي مزيج من السعادة والألم، والصحة والعدم، والاعتقاد بأفكار ومراجعتها وتركها».
***
ترد أمل بتأثر بالغ وتتساءل: «وهل قررتِ قول كل الحقيقة في مذكراتك؟».
زينب الإمام: «لو قلت كل الحقيقة فسيكون العنوان في الصفحة الأولى في كل الصحف هو: زينب الإمام الشيوعية القديمة.. المتحررة.. نكشف أسرار انتقالها للحركة الإسلامية وسر طردها. والسؤال: هل سيرحمني المجتمع؟.. هل سيقدر أفكاري المتحررة في تلك المرحلة؟.. بالطبع لا.. سأُعلّق في سلك الفضائح للأبد، وبدلا من أن أكون شخصية تحظى بالاحترام سأتحول لمزبلة التاريخ، وتتحول سيرتي أضحوكة لمحبي اختلاق الأكاذيب والقصص الفاضحة».
بسرعة تعلق أمل: «وهل تعتقدين أن هذه مشكلة في المجتمع؟».
ترد زينب الإمام: «وهل هذه هي المشكلة الوحيدة.. نحن في مجتمع حكايته تشبه النكتة القديمة عن العجوز الذي يقول لأقاربه: أنا بخير.. لا ينقصني إلا الصحة والسعادة والمال. لديّ مشاكل في عدسة العين، وضغط الدم، والربو، والمثانة، والرئتين، والشرايين التاجية، وشرايين المخ.. هذه مشاكل معتادة على كل حال ولا تثير قلقي، وعلى كل حال لقد قررت البوح».
أمل: «لماذا قررتِ البوح إذن؟».
زينب تجيب بصوت واثق: «لأنني ببساطة أمتلك شجرة ذاكرة أريد تسلقها.. أريد أن أكشف كواليس حكايات عشتها وأفكار هجرتها للأبد، وأخرى عشت أدافع عنها سنوات طويلة جدا.. أريد أن أريح ضميري.. أريد أن أقول إن من حق كل شخص أن يؤمن بالحقيقة التي يراها هو، وألا يسلم عقله للآخرين كما سلمت عقلي يوما ما ولسنوات طويلة.. أريد أن أقول إن ثمة فرقا كبيرا بين الإسلام والمسلمين».
تهرب ساعة كاملة من الوقت المخصص للتسجيل دون جدوى، فتتذكر أمل وظيفتها وتتساءل: «هل سنسجل اليوم؟.»
زينب الإمام: «لن نسجل اليوم، فقد هرب الوقت وهرب الحكي مني، وبدأت صداقتي بك».
***
أمل تشرب العصير وتنصرف وتغلق الباب خلفها.
* قاصة وصحفية من مصر