“غدا”.. ربّما


*هدى بركات


كنت تلقّيت الكتاب، الصادر بالعنوان نفسه عن دار أكت سود الفرنسيّة، كهديّة. لم أتحمّس لقراءته وتركته في زاوية القراءات التي أركنها إلى “ربما- ذات يوم”، لكن الفيلم -“غدا”- ردّني إلى الكتاب، فقط لكي أستعيد ولو القليل من المشاهد والصور من الذاكرة البصريّة…
الأسباب التي تدعو إلى التشاؤم من عالمنا ومستقبله لا يمكن تعدادها أو حصرها. وإذا تركت السياسة بكل مستوياتها: من حروب واستبداد وهجرات وظلم واختلال وفساد وعنف وجاهليّة، والإقتصاد المعولم: من إفقار مشرعن وافتراس وتوحّش وخطف علني لمقدّرات البشر إلخ إلخ… وتحويل كلّ ذلك إلى معايير إجتماعيّة بل إنسانيّة جديدة، مقيتة في مجملها، فما الذي يتبقّى غير الشعور باليأس وعدم القدرة وذلك الإحساس بالذنب لمن يشاهد ويقرأ ولا يستطيع حتّى الإعتراض. يتبقّى العرض اليومي البانورامي وبالألوان لتدمير البيئة إلى غير رجعة، وبحيث يجري التأكيد أن الكوكب الأزرق الجميل يموت اختناقا وتصحّرا.. على أمل أن يكتشف العلماء كوكبا آخر قابلا لأن ننتقل إليه. فـ…ضبّوا الشنط.
هكذا يبدو أيّ كلام، فيلم أو كتاب، ينوي العمل على إحياء جذوة الأمل فينا، يبدو من نوع تكرار النصيحة بإطفاء النوّاصات حفاظا على غابة الأمازون! أي يشبه مزاحا سمجا يعمّق الإحساس باللاجدوى وبفوات الأوان على من سيستلم الأمانة بعدنا. يا حرام، نقول، هؤلاء لن يعرفوا رائحة الأوكسجين – إن كان له رائحة – ولا طعم البندورة حتّى المعدّلة جينيا.
تحديدا من هنا يبدأ الفيلم: “أيّ عالم سيجده هؤلاء بعد أربعين عاما؟” على خلفيّة صور لأولاد فرحين يتضاحكون ويلعبون مع الكاميرا. ويسارع الفيلم للردّ على السؤال الداعي لليأس إيّاه بأن هناك حلولاً. والحلول موجودة في أكثر من خمسين بلدا وقد بدأت مساراتها. والحلول متنوّعة جدا وخلاّقة، تقنيا ومن حيث الفكرة والإختراع. أبطالها ليسوا جبابرة، إنهم نساء ورجال عاديّون، اجتمعوا للحاجة، تداولوا وجرّبوا ونجحوا… وها الفيلم يذهب إليهم.
تتوزّع مشاهد الفيلم على خمسة فصول:
– ماذا لو أعدنا اختراع الغذاء- الطرق والوسائل الزراعيّة-؟ الطاقة؟ الإقتصاد؟ الديمقراطيّة؟ التربية؟
كأن نشاهد كيف يتمّ التداول بنقود محليّة، أو كيف تُقام وتُدار البساتين والحقول الجماعية، أو كيف تعمل شركات تعاونيّة بتمويل يبدأ بسيطا، أو كيف يتمّ تشغيل التشارك الديمقراطي في توزيع مختلف للمسؤوليّة والحكم، أو كيف يتمّ الإرتقاء بمشروع التربية العميقة الإحترام لقدرات الفرد ومؤهّلاته…
يرافق الفيلم هذه النماذج في بلدان عديدة وعبر “أبطال” عاديين، من البشر المميّزين والأذكياء طبعا. لكن لا هم عمالقة كما تقدّمهم هوليود أو أفلام الكرتون والمنغا، ولا هم مجانين اختراعات من الحالمين بنسف نظام الطبيعة على طريقة “العالم الأخوت”. فالبريطاني روب هوبكينز، الأخصاصي في التأهيل الزراعي، وكان بدأ أوّل تجربة له عام 2006، شخصيّة ظريفة لا شكّ، لكنّ طرائفه لا تبعد المشاهد عن جدارته الإستثنائيّة -وهي على محكّ التجريب الحقيقي- في إمكانيّة تجاوز عصر زراعي-تسويقي راهن، إمّا صار مفلسا أو هو على طريق الإفلاس…مثلا.
طيّب، لنقلّل من الحماس للفيلم الذي “يبشّر” بقدوم عصر بشري جديد. لن يعيد فيلم “غدا” لفّ بكرة شريط التدهور إلى الوراء، أو أقلّه أن سرعة لفّ الشريط لن تدرك سرعة التدهور الحاصل الناجز. لنقل إنّنا نميل بشدّة للإنزلاق ناحية الأمل هاتفين: “يس وي كان” طوال عرض الفيلم. بعد ذلك…
الفيلم، الذي شاهدنا بالصدفة عرضه في الهواء الطلق في ساحة ريبوبليك -حيث تستمر الإحتجاجات- يمنح شعورا مرحا ومزاجا خفيفا لأيّام. إنّه حقنة مضادّة للأسى واليأس، ولو أن المفعول يبقى محدودا…
لكنّي لست، في عمري، الزبون المناسب. لذا يُفرحني كثيرا استمرار عرض فيلم “غدا” في صالات كثيرة، بل أنّ عروضه تنتشر وتمتدّ وتتعدّد أكثر فأكثر بحيث يكاد يصبح ظاهرة، الآن وقد تجاوز ما كان مأمولا لفيلم وثائقي…
___
*المدن

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *