*نوال العلي
إن كانت أحداث الفيلم المصري “اشتباك” تدور في ثمانية أمتار مربعة، هي “بوكس” عربة ترحيلات تابعة للشرطة المصرية، فإن هذه المساحة الضيقة كشفت عن مساحات أكبر وأكثر تعقيداً في نفوس وقلوب وعقول مجموعة متفاوتة التعليم ومختلفة الاتجاهات والانتماءات السياسية، شاءت الأقدار أن تجمعهم وتختبرهم في هذا المكان الضيّق في مظاهرات سنة 2013. الفيلم الذي يشارك هذه الأيام في “كان”، والذي افتتح أول من أمس عروض برنامج “نظرة ما”، كان نجم الصحافة الثقافية الغربية وموضع إعجاب نقّاد سينمائيين، حيث قُدّمت فيه شهادات ربما لا تقل أهمية عن الحصول على إحدى الجوائز أو تنويه لجنة التحكيم، ذلك أن المراجعات الإيجابية التي تلقّاها تنوّعت بين الثناء على الفكرة والموضوع في إخراج محمد دياب (صاحب “القاهرة 678”)، وتمثيل نيللي كريم وطارق عبد العزيز وهاني عادل وأحمد مالك.
تبدو مصر كلها وكأنها عربة ترحيلات في هذا الفيلم، محشورة وسط فوضى احتجاجات عنيفة وكل شيء وارد فيها، المفارقة أن السجن الصغير والعفوي هذا هو سجن متحرّك، يوجد فيه 25 شخصاً من الطبقتين الوسطى والفقيرة، الإسلامي والعلماني والعامل و”الدي جي” والمهندس والصحافي والممرّضة وطفلها والمراهقة المحجّبة بل والضابط معهم، لكن هناك شيئاً مشتركاً بين هؤلاء المختلفين ظاهرياً، إنهم أبناء البلد نفسه والشقاء نفسه، أبناء العيش في غياب العدل والفرص والحقوق.
حركة عربة الترحيل تتيح للمخرج أن يرصد العالم الخارجي من نافذة صغيرة وأن يريه في الوقت نفسه للمتفرّج، حيث يشعر الأخير أنه محشور مع هذه الشخصيات في المكان نفسه ولا يستطيع أن يرى الأحداث إلّا من الفتحة ذاتها.
المشهد نفسه يقول الكثير عن دور المشاهدة الذي أصبح العالم كله شريكاً فيه ويلعبه في بيته أمام الشاشة التي يعتقد أنه يرى منها الحقيقة.
لا يختار “اشتباك” أن يشتبك مع أي مقولة سياسية على حساب الأخرى، ليس مع “الإخوان المسلمين” ولا ضدهم، ليس مع النظام ولا ضده، إنه فيلم عن لحظة تختفي فيها الأيديولوجيا ويحل محلّها تطلّع وحيد: النجاة ومواصلة العيش.
الفيلم كما يصفه المخرج في لقاء مع محطة “آي أر تي” الفرنسية يبحث في “أصل العنف”، إذ إن هناك دائرة مفرغة من العنف داخل السيارة، يساهم كل من فيها في تغذيته أو ممارسته أو لحظات من محاولات إيقافه، إلى أن يقترح السجناء على بعضهم في النهاية أن الخلاص قد يكون في الانضمام إلى “داعش” بعد خروجهم من هذا المأزق.
يتطلّع دياب إلى عرض الفيلم في القاهرة، لكنه يشك أيضاً في إمكانية ذلك. إذ يؤكد في اللقاء نفسه على صعوبة مرور العمل من الرقابة والحصول على إذن في المقام الأول، ثم يلفت إلى أن الفيلم يمكن أن يتم إيقاف عرضه حتى بعد الحصول على تصريح، والأخطر من ذلك، وفقاً لتعبير دياب، أن الأفراد يمكنهم مقاضاة المخرج أو الكاتب أو الفنّان، قد يرى أحدهم الفيلم ثم لا يحبه ويتهم المخرج أو الكاتب بالخيانة مثلاً أو ربما إهانة روح الأمّة! من يدري. فقد سبق وتعرّض المخرج لثلاث قضايا على فيلمه الأول “القاهرة 678” من أفراد، كانت فحواها أنه يُظهر مصر بصورة سيئة، تهمة أخرى كانت أن الفيلم يحرّض النساء على التمرّد والعنف.
يقول الفيلم شيئاً ما عن الجميع، ويتيح للجميع قول شيء ما، وقد يجعل الجميع يغضب من صورته في “اشتباك”، ولكن إذا كان غضب هذه الفئات المختلفة موزّعاً بالتساوي فقد بلّغ الفيلم إذن مقولته بأكبر قدر ممكن من العدالة والموضوعية. إنه عن اللحظة التي قد يتحوّل فيها أي بلد من العيش معاً إلى الحرب الأهلية، حين لا يمكن أن نرى الآخر سوى عدوٍّ.
يشارك في مهرجان “كان” هذا العام أيضاً عشرة أفلام عربية من بينها ثلاثة لبنانية هي: “ربيع” للمخرج اللبناني فاتشيه بولغورجيان، وفيلم “من السماء” لوسام شرف و”غواصة” لمنية عقل، ومن تونس فيلم “علّوش” للطفي عاشور، ومن فلسطين “أمور شخصية” للمخرجة مهى حج أبو العسل، وفيلم “شوف” للمخرج التونسي كريم دريدي، ومن المغرب فيلم “الهبات” للمخرجة هدى بنيامينا، وهناك أيضاً فيلم “دورة فرنسا” للمخرج الجزائري السوداني رشيد جعيداني، وأخيراً فيلم جزائري قصير بعنوان “قنديل البحر” للمخرج داميان أوتوري.
المتتبع لبرنامج المهرجان في الدورات الأخيرة، يلاحظ أن المشاركات العربية كانت متقطّعة، لكن السينما المصرية واللبنانية وجدتا مساحة في “كان” منذ سنواته الأولى، ففي عام 1952، شارك يوسف شاهين بفيلم “ابن النيل” ثم شارك فيلم “ليلة غرام” لأحمد بدرخان عام 1954، وبعد ذلك بأربع سنوات عُرض أول فيلم لبناني في المهرجان وكان “إلى أين؟” للمخرج جورج ناصر.
لكن آخر فيلم مصري شارك في الدورات السابقة قبل “اشتباك” كان عمل يسري نصر الله “بعد الموقعة”،والذي تناول الفترة نفسها التي يتطرّق إليها دياب في هذا الفيام.
_____
*العربي الجديد