نيكولا دي كونْدرْسِيه: نهاية أليمة لعبقريّة عظيمة


* فتحي الحبّوبي


خاص ( ثقافات )


“سيأتي الوقت الذي لا تشرق فيه الشمس إلّا على أحرار الرجال الذين لا يعرفون لهم سيداً غير العقل” 
نيكولا دي كونْدرْسِيه
بات من المعلوم، عند العقلاء، أنّ حياة العظماء وإنجازاتهم، إن في الفكر والعلم أو في الفلسفة والسياسة ونحوها، لا تعني شخوصهم فحسب، بل قد تعني الكثيرين ممّن يستخلصون العبر من إنجازاتهم العلميّة والسياسيّة وإبداعاتهم الفكريّة والفلسفيّة لفائدة الإنسانية جمعاء، في غير ما تمييز ولا استثناء. فحياة العظماء مصابيح تضيء دروب الشعوب في كل عصر ومصر. وفي هذا المعنى كتب ريمون تروسون(Raymond Trousson) مؤلّفا هامّا بعنوان (Denis Diderot: Ou le vrai Prométhée )
“دني ديدرو: أوبروميثيوس الحقيقي”، بما يعني المحرّر الحقيقي للفكر البشري، لأنّ بروميثيوس الذي يفيد اسمه باللاتينية، بعد النظر وامتلاك القدرة على التنبّؤ بالمستقبل، هو من سرق، وفق الأسطورة اليونانيّة، شعلة النار المقدّسة أوالمعرفة من عند زيوس كبير الآلهة ليعطيها للبشر. لذلك فالعنوان إشارة رشيقة إلى الأهميّة المعرفيّة والتنويريّة للمفكّر ديدرو، صاحب مشروع تأليف موسوعة العلوم، والفنون، والصناعات، والفلسفة، وهو-دون شك ولا ريب- أضخم مشروع تنويري فرنسي في القرن الثامن عشر. وقد أنجزه ديدرو، على مدى ربع قرن تقريبا، بمعيّة صفوة من النخبة في كل المجالات، من بينهم نيكولا دي كونْدرْسِيه Nicolas de Condorcet الذي كتب ضمنه مقالات في الاقتصاد السياسي. وكان لهذا المشروع أثر وأيّ أثر على تراجع الأصوليّة الكاثوليكيّة في فرنسا التي خرجت عقب ذلك من ظلمات العصور الوسطى إلى أضواء العصور الحديثة، لتغدو فضاء للتنوير والأنوار يشعّ على العالم كلّه. لذلك نستشعر اليوم أمام خطر الوهابيّة الداهم، أنّ العالم العربي في حاجة إلى ”ديدرو عربي” ليحدّ من تغوّل الوهابيين الذين يعيشون اليوم زمانهم الخصب، وهم الجهلة، السذّج والمتخلّفين، أعداء الحياة وأعداء الديمقراطيّة والتقدّم والتنوير والتحديث. أجل نستشعر الحاجة إلى “ديدرو عربي” لفكّ إسار المواطن العربي، من الخليج إلى المحيط، من قيود وأغلال هي ضدّ الطبيعة والعقل، تمارس عليه باسم الإسلام الذي هو منها براء، وتتحصّن بظلال المقدّس وتسعى لإيهامه أنّ مستقبله في ماضيه، وأنّه من المفترض أن يعيش الآني والراهن بفكر وأدوات الماضي ‘المقدّس’. وهو لعمري عين الخور. لأنّ ذلك لا يعدو أن يكون مجرّد سباحة هواة ضد تيّار مجرى التاريخ وسيرورة التقدّم.
ولعلّ حياة عالم الرياضات والفيلسوف ورجل السياسة الفرنسي نيكولا دي كونْدرْسِيه ، رغم نهايتها التعيسة والمؤلمة، لا تخرج عن هذا السياق. تماما مثلما كانت نهاية حياة كلاّ من الفلكي والفيزيائي جاليليوGalilée في إيطاليا والفيلسوف نيتشة Nietzsche في ألمانيا وشاعر الثورة ضد الاستعمار منوّر صمادح في تونس والباحث المتخصص في الدراسات الإسلامية نصر حامد أبو زيد في مصر والمفكر الإسلامي محمود طه في السودان وغيرهم ممن قد نفرد لكل منهم مبحثا على حدى. 
فقد ولد نيكولا دي كونْدرْسِيه في عائلة نبلاء، قبيل النصف الثاني من القرن الثامن عشر وانتخب عضوا للعمل بأكاديمية العلوم الفرنسيّة. ثم ما لبث أن أصبح سكرتيراً دائماً لها. حيث تكفّل بكتابة خطابات التأبين المتعلّقة بأعضاء الأكاديمية الذين وافاهم الأجل المحتوم. وحيث كانت هذه التأبينات حسنة الصياغة وقويّة البلاغة ، فقد شدّت إليها انتباه المفكّر الذي أطلق الفكر من عقاله، الأديب الكبير فولتير الذي أعجب بها شديد الاعجاب وعبّر له عن رغبته في الاستماع إلى المزيد منها. ما يعني أنّ كوندرسيه كان مبدعا في المجال الأدبي.
أمّا جولي دلسبيناس Lespinasse Julie de صديقة دالامبير d’Alembert وصاحبة أكثر الصالونات الفكريّة الفرنسيّة رواجاً وقتئذ، فقد كانت تقول عنه “إنّه لا يفضله، غير دالامبير ، من حيث سعة عقله، لا بل إنّه كان يفوقه في حرارة وصدق حبّه للخير”. ومعلوم أنّ دالامبير- شريك ديدرو في إنجاز الموسوعة الفرنسيّة المومأ إليها آنفا- يعتبر من أكبر علماء الرياضيات والفيزياء في عصره. ما يعني أن كونْدرْسِيه كان نابغا هو الآخر في المجال العلمي وخاصة في مجال الرياضيات وبصفة أخصّ فيما يتعلّق بالإحصاء والاحتمالات (statistique et probabilités) التي له فيها كتبا عديدة لعلّ أشهرها ”مقال في تطبيق التحليل على احتمالات القرارات التي تعود إلى تعددية الأصوات (Essai sur l’application de l’analyse à la probabilité des décisions rendues à la pluralité des voix) الذي شرح فيه المفارقة المعروفة باسمه ”مفارقة كونْدرْسِيه” (Le paradoxe de Condorcet) والتي تتمثّل خلاصتها- بشيء من التبسيط- في التناقض في نظريّة الاحتمالات التي تجعل أنّه في بعض الوضعيات الانتخابيّة وبالنسبة لثلاثة مترشحين للرئاسة ( أ، ب،ت) ، قد يكون (أ) أكثر احتمالا للفوز من (ب) فيما يكون (ب) أكثر احتمالا للفوز من (ت)، إلّا أن ذلك قد يؤدّي إلى أن يصبح (ت) في النهاية أكثر احتمالا للفوز من ( أ). وهي مفارقة رياضيّة غير منطقيّة، ناتجة عن خاصيّة عدم التعدّي La non-transitivité لعلاقة التفضيل ما بين المترشحين. وهي مفارقة يتمثّلها الرياضيون أثناء دورات كأس العالم ، حيث يفوز بالكأس فريق، كان قد أخفق مع فرق صغيرة. 
يضاف إلى هذا، أنّ كوندرسيه كان ذا توجّه إنساني لأنّه محبّ للعمل لفائدة الغير. وهو ما يفسّر تصدّيه لتجارة الرقيق سنة1781 ودعوته لإلغاء عقوبة الإعدام وانخراطه في “جمعيّة أصدقاء السود “. ويعتبر نيكولا دي كونْدرْسِيه أوّل من دعا إلى تحديد النسل. كما أنّه أوّل من أشار إلى أنّ نمو السكّان يتّجه إلى تجاوز نمو إنتاج الطعام، في كتابه سالف الذكر “مقال في تطبيق التحليل على الاحتمالات” ، سابقا في ذلك نظريّة الاقتصادي البريطاني Thomas Malthus توماس مالتوس الشهيرة التي أكّدت أنّ هذا النمو إنّما يكون وفق متوالية حسابيّة progression arithmétique بالنسبة لزيادة الإِنتاج الزراعي، ووفق متوالية هندسيّة progression géométrique بالنسبة لزيادة السكّان ، بما سيؤدّي حتماً إلى نقص في الغذاء والسكن. وعلى هذا الأساس فقد انتهج الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة إبّان الاستقلال، سياسة تحثّ الاسرة التونسيّة على تطبيق فكرة تحديد/تنظيم النسل، علاوة على إقرار منع تعدّد الزوجات. ما أدّى إلى أن تتبوأ تونس المرتبة الأولى على مستوى ضعف نسبة النمو الديموغرافي في كلّ من إفريقيا والعالم العربي. ورغم ذلك، فالفقر والبطالة فيها اليوم، بلغا أرقاما ونسبا مرتفعة جدّا، حتّى في أوساط خرّيجي الجامعات، وكانا من الأسباب الرئيسيّة لقيام ثورتها التي سرعان ما بدأت في الخبو والإنحسار، بعد أن وقع السطوعلى مكتسباتها ومورست عليها الوصاية من لدن الإسلاميين المعتدلين والمتطرّفين على حدّ سواء. وهم الذين لا يزالون يتوهّمون إمكانية إحياء الخلافة من جديد. بل إنّ هذه الوصاية انخرط فيها، أيضا العلمانيون والليبراليون واليساريون وكل أطياف المجتمع المدني دون استثناء. ولكن بدرجة أقلّ، لأنّهم جميعا خارج دائرة القرار والسلطة في أغلب بلدان الربيع العربي.
وتجدر الاشارة بعد هذا الاستطراد، إلى أنّه عرف عن نيكولا دي كوندورسيه أنّه كان من أشدّ الأنصار لفولتير ، ومن أقرب الأصدقاء للموسوعي دالمبير. وأنّه كان بحقّ أحد أبرز المشاركين في الثورة الفرنسيّة العظيمة. بل انتخب سنة(1791)لعضويّة الجمعيّة التشريعيّة(البرلمان)وسنة (1792) لعضويّة الميثاق الوطني La Convention nationale / الجمعيّة الوطنيّة التأسيسيّة ، التي تكفّلت بإعداد الدستور للجمهوريّة الفرنسيّة الأولى، وترأس لجنة التعليم العام حيث قدّم تقريرا هامّا يدعو فيه إلى مجانيّة التعليم وشموله للجنسين دون تمييز. وقد اعتمده نابليون –فيما بعد- أساسا لسياسته التعليميّة. 
ومن بين مواقفه وأعماله الجليلة، نذكر لا على سبيل الحصر، تأكيده على تأثير الحضارة العربيّة في النهضة الأوروبيّة، ودعوته لإصلاح التعليم وفصله عن الحكومة وإبعاده عن النفوذ الكنسي والديني عموما، والمساواة بين المرأة والرجل أمام القانون، وإرساء الديمقراطيّة والمناداة بحقّ التصويت للجميع بمن فيهم النساء وإنشاء ما أسماه «علم الرياضيات الاجتماعيّة» أو علم السلوك الإنساني. هذا علاوة على أفكاره السابقة لزمانه ونظرياته ذات العلاقة، بحريّة العقيدة والتسامح بين جميع الأديان، وبالمعرفة التي جاءت معارضة لنظريّة ديكارت في الغرض، وبالتقدّم ومستقبل الإنسانية . حيث أنّه كان يعتقد، اعتمادا على نظريّته في فلسفة التاريخ، أن الطبيعة البشريّة بإمكانها الوصول إلى الكمال ، ضرورة أن مسيرة التاريخ تؤكّد، بما لا يدع مجالا للشكّ، سلوك البشريّة مسلكا متوجّها بثبات نحو حضارة مستنيرة. وهو ما دعاه إلى القول: «يجب أن يكون هدف جميع المؤسسات الاجتماعيّة تحسين الأحوال البدنيّة والفكريّة والأخلاقيّة لأكثر طبقات السكّان عدداً وأشدّها فقراً». بما يعني “تحقيق مساواة أكثر بين الأمم والطبقات الاجتماعية. وقد شرح هذا الرأي بإسهاب في كتابه الشهير”مجمل صورة تاريخيّة لتقدّم العقل البشري” (Esquisse d’un tableau historique des progrès de l‘esprit humain). وهو الكتاب الذي ألّفه كونْدرْسِيه في مخبئه بباريس بعد اتّهامه بالخيانة ، نتيجة لموقفه من الدستور الجديد الذي تبنّته الجمعيّة التأسيسيّة، والذي أعتبره كوندورسيه متطرّفا، وحرّض الجماهير على رفضه. فكان أن أتّهم من معارضيه بمعاداة الثورة والتآمر ضدّ المصلحة الوطنيّة الفرنسيّة فأمر ”الميثاق الوطني/ الجمعيّة الوطنيّة التأسيسيّة ” بالقبض عليه. علما وأنّه كان قد تقدّم إليها بمشروع دستور أكثر اعتدالا ، لكنّه رفض لارتياب المحافظين في كوندورسيه باعتباره جمهوريّاً، وارتياب اليعاقبة les Jacobins فيه باعتباره أرستقراطيّا يسعى إلى أن يكون الدستور الجديد، لصالح البورجوازيّة. وظلّ تسعة أشهر مختبئاً في منزل أرملة، ولمّا غادره قبضت عليه الشرطة منهوكا، وأودع السجن، بعد يومين من الجوع والتشرّد في أطراف باريس، التي كان نائبا عنها في البرلمان وأحد نوابها البلديين،. وهي مفارقة شاذّة الحدوث، لعلّها ضرب من ضروب سخريّة القدر الذي أراد لنيكولا دي كونْدرْسِيه أيضا، أن يموت في ذات الليلة التي سجن فيها على إثر جلطة في أحد عروقه. ولعلّه مات مسموما أومقتولا وفق روايات غير مؤكدة. 
وهكذا ينزل الستار على حياة هذا الرجل العبقري الذي قدّم للإنسانية جليل الخدمات، لكنّ سلطة بلاده تنكّرت له في لحظة تحوّل ثوري، وتعاملت معه كما لو كان خنزيرا وحشيّا أو جرذا قذرا. إلّا أنّه، ورغم هذه النهاية الأليمة، يبقى قامة سامقة وعظيمة في تاريخ فرنسا والعالم. لا فقط باعتباره سياسيّا صاحب مشروع إنساني، بل وكذلك- وهوالأهمّ- باعتباره عالم رياضيات فذّ، وفيلسوف تنويري يقدّس سلطة العقل ويعتبرها فوق كل سلطة دونها.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *