الرومانسية من بيتهوفن إلى برامز




انخرطت الموسيقى الأوروبية في الحياة الفكرية والأدبية والسياسية بعد خروجها من عباءة الكنيسة كعنصر مصاحب للقصص الكنسي، أو كمعبّر عن بعض المعاني والمفاهيم الدينية. لكنها لم تكن تعبّر على نحو مباشر مثلما كانت وظيفتها في الكنيسة، وإنما كانت تتأثّر وتؤثّر في الحياة كعنصر حي فاعل في جسد المجتمع، فنحن نرى في فيينا نهاية القرن الثامن عشر لودفيج فان بيتهوفن (١٧٧٠-١٨٢٧) المؤلف الموسيقي الشاب المؤمن بالثورة الفرنسية (١٧٨٩-١٧٩٩) وهو يقترب من أفكار حركة فايمر كلاسيك (١٧٧٢-١٨٠٥) المدرسة الأدبية الكلاسيكية التي كانت تضم جوته وهيردر وشيللر وفيلاند، وتبحث في تلك الآونة عن قيم إنسانية جديدة، تربط الأفكار الرومانسية والكلاسيكية والتنويرية. إنها أفكار الثورة، ورائحة الثورة، بل وأيضا إحباطات الثورة التي دفعت بيتهوفن دفعا نحو تغيير الشكل الموسيقي وكسر القوالب الموسيقية (في حدود المعروف والمتاح وقتها) لصالح المضمون، لقد أطاحت الثورة الفرنسية بالملكية والارستقراطية وسلطة الكنيسة لصالح شعارات وطنية، ديمقراطية، تنويرية (الحرية، المساواة، الإخاء) تهدف إلى المواطنة والعدل وحقوق الإنسان، فانتهت إلى سلطة محورها الفرد، والقوة العسكرية، واحتلال الأراضي، وتسببت في حروب دموية مع الدول الأوروبية الأخرى، لنجد الامبراطورية ال أولى عام ١٨٠٤ تحت قيادة نابليون شخصيا، نفس الزعيم الملهم القائد لثورة التنوير والحرية، الذي يقود حروبا، تحوّله في النهاية إلى امبراطور. ومع ذلك كانت تلك الثورة وما أحاط بها من أفكار وزخم ثقافي مصدرا مهما لإلهام بيتهوفن، الذي تحرّك بالموسيقى باتجاه مفصلي جديد، حينما تبدت في مؤلفاته بشكل واضح الفكرة الموسيقية قبل اللحن، وقام بتطويع القالب الموسيقي بحيث يستوعب الفكرة حتى لو تمددت خارج نطاق الهيكل المعروف للقوالب الموسيقية المستخدمة في فيينا القرن الثامن عشر (السوناتا، السيمفونية، الكونشيرتو.. إلخ) لقد تمكّن بيتهوفن من فتح الطريق لشوبيرت وشومان وبرامز كي يتحررا بشكل أكبر من سلطة الشكل، ليفتح ذلك المفصل الموسيقي الطريق لرومانسية القرن التاسع عشر، ومركزية الإنسان وقضاياه الوجودية على حساب قضايا الدين والمجتمع والدولة. إن اللحن عند بيتهوفن ليس لحنا بقدر ما هو فكرة، الفكرة هي ما يصنع اللحن وليس العكس.. وهو ما يجعل موسيقى بيتهوفن صالحة لجميع الأشكال والتشكيلات وإعادة الصياغة، بل وصالحة لكل زمان ومكان لا ترتبط بالآلة ارتباطها بالآلة عند من تلاه، فالموسيقى عند بيتهوفن مجردة، الموسيقى هي الفكرة، والفكرة هي التي تخلق الموسيقى، وتفجر النص الموسيقي من الداخل. من الجوهر.. فكرة تشبه مكعبات الأطفال وناطحات السحاب التي تعتمد بشكل أساسي على فكرة/ وحدة بسيطة تتكرر مئات وآلاف المرات لتكوّن مبنيً ضخما لا سقف لتمدده. وتكمن ثورية بيتهوفن في نزوعه نحو الداخل، داخل المازورة الواحدة، وحدة التكوين الموسيقي، في بحثه داخل الواحد الصحيح، عن الحلول الفنية في ذلك اللانهائي الموجود بداخل الوحدة.
فرانز شوبيرت المؤلف النمساوي (١٧٩٧-١٨٢٨) الذي لم يمهله القدر أكثر من واحد وثلاثين عاما ترك إرثا موسيقيا عظيما يتكون مما يربو على ١٥٠٠ عمل، يقع في مركزها ستمئة أغنية للصوت بمصاحبة البيانو، بجانب سبع سيمفونيات كاملة وثامنة غير مكتملة (كتب منها حركتين قبل وفاته) وأعمال للبيانو ولموسيقي الحجرة. لم يحظ شوبيرت بالشهرة أثناء حياته، واكتشفه بعد وفاته مؤلفو القرن التاسع عشر شومان وبرامز وليست. وإذا كان بيتهوفن هو بناء معماري يتكون من وحدات تربطها فكرة واحدة تتكرر وتتلاحم في بينها في هيكل مرصوص بعناية شديدة، فإن شوبيرت الذي كان يصغر بيتهوفن بعشرين عاما هو طريق معبّد لانهائي يمتد بألحانه عبر التاريخ، دون أن تشعر برغبة في أن تنتهي تلك الألحان، وكأنه يتسرب من حطام القالب الموسيقي بألحانه ومناجاته العذبة، فلا يصبح للقالب ذات الأهمية التي تتمتع بها أهمية الحميمية والولوج إلى المضمون دون مقدمات ودون رسميات. لهذا السبب كان محور مؤلفات شوبيرت هي أغانيه التي فاقت الستمئة أغنية طرح فيها كل أطيافه الموسيقية وإمكاناته الإبداعية. وفي هذا المضمار أيضاً تحرر شوبيرت من إيقاع النص الشعري الرتيب والمربع في إبداعات من سبقوه من الكلاسيكيين، وتحرك باللحن والقصيدة نحو آفاق الرومانسية ووصل في قالب الأغنية الشاعرية Lied إلى أوج تطوره، وكتب موسيقي لقصائد جوته وشيلر وريلشتاب وهاينه وسايدي. وبذلك كرّس شوبيرت فكرة المقطوعات الصغيرة، والأفكار المنمنمة، التي تعامل معها بنفس آلية كتابة الأعمال الكبيرة (السيمفونيات والسوناتات). مات شوبيرت في فقر، ولم يعرفه أحد سوي حلقة من أصدقائه ممن استطاعوا أن يدركوا عبقريته. لكن مؤلفاته تقف اليوم شاهدا على عبقريته، وكانت مفصلا موسيقيا مهما ألهم من بعده من مؤلفي القرن التاسع عشر للحركة بثبات نحو الرومانسية، بل إن أعماله وبالذات سيمفونيته غير المكتملة، والسيمفونية في سلم دو الكبير تعد خطوة مهمة استلهمها جوستاف مالر (١٨٦٠-١٩١١) وأنطون بروكنر (١٨٢٤-١٨٩٦) في فيينا القرن العشرين.
يتصدر الرومانسية في الموسيقي الأوروبية المؤلف الألماني روبرت شومان (١٨١٠-١٨٥٦) وهو إلى جانب التأليف كان عازفا لآلة البيانو وناقدا موسيقيا. كتب شومان معظم أعماله حتى عام ١٨٤٠ لآلة البيانو، حيث أكد له أستاذه فريديريك فييك أن بإمكانه أن يصبح أهم عازف في أوروبا، لكنه أصيب لاحقا بمرض في يده منعه من تحقيق حلمه. تزوج بابنة فييك عازفة البيانو الشهيرة كلارا فييك (١٨١٩-١٨٩٦) التي أصبحت فيما بعد كلارا شومان، وكتب إلى جانب أعمال البيانو أعمالا للغناء بمصاحبة البيانو وأعمالا لموسيقي الحجرة وأعمالا أوركسترالية. تحرك شومان خطوات ملموسة تجاه الرومانسية التي تتخطي القالب بشكل واضح وصريح، فكتب العديد من المجموعات للبيانو المنفرد تحت اسم «كارنفال» و«بابيون» و«دراسات سيمفونية» وكلها لم تعد تندرج تحت أي من القوالب المعروفة من قبل في العصر الكلاسيكي، وإنما ترتبط فيما بينها بخط درامي، أو مقامي، أو أفكار تحمل نفس طيف المشاعر. كذلك تصدرت الفكرة الموسيقية التي تستند بشكل كبير إلى مهارة العزف على آلة البيانو، والأشكال المختلفة التي يكونها وضع اليد والأصابع.
لقد تميّز القرن التاسع عشر بشهرة آلة البيانو واكتسابها شخصية واضحة، وطريقة مميزة للكتابة، ولا يعود ذلك فقط في آليات التأليف الموسيقي المتحركة بثبات نحو الرومانسية، لكنه يعود أيضاً إلى أن آلة البيانو في تلك الفترة (مطلع القرن التاسع عشر وحتي عام ١٨٦٠) قد شهدت تطورا هائلا نظرا للتطور الصناعي، واختلاف الخامات لأوتار البيانو، وأنواع هياكل البيانو التي أصبح من الممكن صبها من الحديد الزهر، وكذلك اتسعت مساحة البيانو لتشمل الأوكتافات السبع التي نعرفها الآن وكان ذلك عام ١٨٢٠. تصدرت شركة «بلييل» pleyel في باريس هذه الصناعة حيث صنعت آلات البيانو التي استخدمها فريديريك شوبان (١٨١٠-١٨٤٩) المؤلف البولندي الذي ترك بولندا إلى باريس في سن العشرين عاما وكتب معظم أعماله لآلة البيانو، وأصبح اسمه مقترنا بالآلة، واكتشاف شخصيتها التي اشتهرت بها فيما بعد. تحرك شوبان خطوة رومانسية إضافية فبدأ الرسم بالموسيقى، وتحولت عنده المقامات الموسيقية إلى ألوان ومشاعر وتحولت نغمات البيانو إلى مفردات وكلمات وجمل وأبيات، ورسم بمقطوعاته شديدة الشاعرية عالما جديدا مستخدما فيه كل الإمكانيات الجديدة للآلة. التقي شوبان بالمؤلف المجري فرانز ليست (١٨١١-١٨٨٦) الذي اشتهر كعازف بيانو بارع إلى جانب التأليف الذي كان يوظفه من أجل الإبهار غير المسبوق، وبالفعل فقد تمتع ليست بمهارة في العزف لم تكن موجودة من قبله، لكنها فتحت المجال فيما بعد لمدارس وطرق كثيرة للتدريس، والتدريب على مهارة الآلة من خلال مقطوعاته والدراسات التي ألفها إلى جانب دراسات شومان وشوبان وكارل تشيرني (١٧٩١-١٨٥٧) المؤلف النمساوي من أصول تشيكية الذي درس مع بيتهوفن وتخصص في كتابة مقطوعات للتدريب على مهارات البيانو. فتح فرانز ليست آلة البيانو لكل الإمكانيات المتاحة وقتها، وإذا كان شوبان قد اكتشف شاعرية البيانو، فقد اكتشف ليست إلى جانب الشاعرية كل الجوانب الأخرى من شخصية البيانو. لكن الأهم من ذلك هو الموسيقى المبرمجة التي ترسم مشهدا طبيعيا، أو تشرح مشهدا معينا، بما يتطلبه ذلك من التعبير باللحن والتكوين الموسيقي عن شخصية ما، أو مكان ما، أو عاطفة ما، فتتكرر تلك المادة/ الفكرة اللحنية كلما ظهرت أو تتغير بتغير الشخصية/ المكان/ العاطفة، ظهرت تلك الخاصية الجديدة في الموسيقى بوصفها نصا يمكنه التعبير عن أشياء محددة وليست مجردة ومبهمة.
كان أهم من استخدم تلك الفكرة ريتشارد فاجنر (١٨١٣-١٨٨٣) المؤلف الألماني الذي طوّر قالب الأوبرا على نحو ثوري، واعتبر الأوبرا (عملا فنيا متكاملا) يتضمن داخله كل عناصر الفنون المعروفة للإنسان، فكان يكتب النصوص التي يؤلف موسيقاها، ويتدخل في بناء المسرح، وأنواع الخدع البصرية، وطريقة العرض، كتب فاجنر مجموعة من المقالات المتخصصة في الأوبرا بين الأعوام ١٨٤٩ و١٨٥٢ تجسدت عمليا في الجزء الأول من أوبراته الملحمية الأربع «خاتم النيبيلونج»، الأوبرات التي استغرق كتابتها ستة وعشرين عاما، ويبلغ طولها في الأداء زهاء خمس عشرة ساعة تقدم على علي أربع ليال متتالية، يبلغ طول أقصرها ساعتين ونصف الساعة، والأخيرة خمس ساعات.
أما الابن الشرعي لثورية بيتهوفن وشاعرية شوبيرت وشوبان وعنفوان شومان وليست والمركز الحقيقي لكل الأفكار الرومانسية التي تجمعت فيها كل عصارات الماضي هو المؤلف الألماني يوهانس برامز (١٨٣٣-١٨٩٧). ولد برامز في هامبورج وعاش معظم حياته في فيينا، وحصل على شهرة معقولة أثناء حياته، ويوضع إلى جانب باخ وبيتهوفن في إسهاماته الموسيقية، فقد تمكّن من المزج بين عقلانية بيتهوفن واعتنائه الشديد بالفكرة، وإستنباط اللحن من الفكرة، وبين شاعرية شوبيرت وانسيابية فكرته واستنباط الفكرة من اللحن، وتمكن استخدام الأشكال والأوضاع والإمكانيات المختلفة للآلات لاستخراج أفكار جديدة لم تسمع من قبل، فخرجت إبداعات يوهانس برامز محكمة التكوين، عذبة الألحان، لا تطغي فيها الفكرة على اللحن أو اللحن على الفكرة، فيبدو للمستمع وكأن هذه الفكرة لم يكن من الممكن أن تكون على نحو مختلف بألحان مختلفة أو بآلات مختلفة، وهذا اللحن إنما خلق لكي يظهر بهذا الشكل والتكوين والتوزيع الأوركسترالي.
* القاهرة.

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *