*عبده وازن
حمل الشاعر البرتغالي الكبير فرناندو بيسوا سرّ «انفصامه» الشخصي معه ورحل في السابعة والأربعين. كل ما كتُب لاحقاً بعد انكشاف لعبته الخطرة، عن تعدد أسمائه أو قرائنه لم يحلّ اللغز. حتى بيسوا نفسه لم يتوصل إلى تفسير هذه «اللعبة» القدرية التي انقسم فيها إلى أربعة كتّاب هم هو وهم أنفسهم في آن واحد. يقول في كتابه «مقاطع من سفر ثابت»: «كم أنا؟ من أنا؟ ما هذا الفاصل الذي ينسل بيني وبين نفسي؟».
الأسماء الأربعة التي كتب بها بيسوا أجمل أعماله، لم تكن مجرد أسماء يوقع بها الكاتب نصوصه تحايلاً على القراء او الرقابة، بل كانت اسماء لأشخاص حقيقيين مقدار ما هم متوهّمون. لم تكن أقنعة اختبأ الشاعر وراءها ليكتب ما لا يجرؤ على كتابته باسمه الحقيقي. لم تكن ايضاً أسماء مستعارة لا بد أن تسقط في ختام اللعبة. حافظ بيسوا عليها حفاظه على اسمه نفسه. فهو كان يعد ما يكتبه «معارضة» لما يكتبه الآخرون الذين هم هو، وما يكتبه الآخرون هو ايضاً معارضة لما يكتبه هو. إنهم يكتبون متفاعلين واحداً مع الآخر. ولكل منهم صوته ورؤيته ولغته وطريقته في التعبير. وجميعهم شاركوا في ما يسميه بيسوا «دراما» وجوده. إنهم «الأنوات» المتعددة لحظة غياب «الذات»، بل هم «الذات» وقد انقلبت إلى أكثر من»أنا».
كان فرناندو بيسوا ذا نزعة باطنية أو «إيزوتيريكية» وهو كتب في هذا الحقل نصوصاً عدة. وقد تكون تجربة «الانفصام» الشخصي وغير المرضي حتماً، هي حصيلة اختباراته الروحية والميتافيزيقية والصوفية. وما قد يؤكد هذا الاختبار هو الطابع العجائبي لحلول الأشخاص أو الأقران عليه. فهو يتحدث في رسالة كتبها إلى صديق له يدعى كازيررس مونيتارو عمّا يسميه «يوماً مجيداً» في حياته وهو الثامن من آذار (مارس) 1914، وهو اليوم الذي انبثق فيه شخص من قرارة نفسه سماه ألبرتو كاييرو. ظهر هذا الشخص بعدما غرق بيسوا في كتابة أكثر من ثلاثين قصيدة متتاليةً في حال من الانخطاف، وهي القصائد التي حملت في ما بعد عنوان ديوانه البديع «حارس القطعان». ثم يروي كيف كتب للفور ست قصائد أخرى سماها «مطر مائل». ويصف بيسوا هذه الحالة الانخطافية بـ «معارضته هو بصفته فرناندو بيسوا لعدم وجوده الشخصي بعدما أصبح ألبرتو كاييرو». الأمر معقد وليس في متناول التفسير المنطقي ما دام الشاعر يحيا أحوالاً من الانخطاف والوجد والتجلّي. ماذا يعني أن يكتب شاعر أحد أجمل دواوينه «حارس القطعان» في لحظات وحي متتالية خلال يوم واحد؟ غير أن بيسوا يوضح في رسالته الشهيرة إلى صديقه، كيف أنه عمل، بعد ظهور شخص ألبرتو كاييرو وانبثاقه من روحه، على إيجاد أشباه أو أقران له فكان ريكاردو رييس ثم ألفارو دو كامبوس ثم برناردو سواريش.
من يقرأ أعمال بيسوا الشعرية قراءة نقدية دقيقة يلحظ، كما يقول الناقد الفرنسي أرنو باينو، إن قصائد هؤلاء الشعراء الأقران تختلف فعلاً بعضها عن بعض، كما لو أن لكل شاعر شخصيته ولغته ورؤيته. ألبرتو كاييرو الذي كتب «حارس القطعان» يبدو على تآلف مع الطبيعة ذات الملمح الداخلي أو الرومنطيقي الفلسفي. ريكاردو رييس يبدو شاعراً ذا نزعة رواقية تتجلّى في كتابته المتعددة لـ «الأناشيد». وقد استوحى شخصيته الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو في روايته الشهيرة «موت ريكاردو رييس». الشاعر ألفارو دي كامبوس الذي كتب «النشيد البحري» كان ذا ميل إدهاشي لامع. أما المفاجأة فتتمثل في شخص برناردو سواريس الذي نسب بيسوا إليه أحد أجمل كتبه وهو «كتاب اللاطمأنينية». هذا الكتاب يُعد من أرقى ما كتب في الأدب العالمي الحديث.
سيظل «انفصام» فرناندو بيسوا الشخصي والإبداعي، السليم وغير المرضي، لغزاً من ألغاز هذا الشاعر الكبير. لم يحل هو نفسه اللغز ولم يسمح لأحد بأن يحله. ومع أنه كتب مرة يقول: «منذ طفولتي كنت أميل إلى أن أحيط نفسي بأصدقاء وأشخاص لم يوجدوا قط»، فهو لم يتمكن من تفسير هذه الظاهرة الغرائبية أو الخارقة التي استولت عليه. ولئن أعلن الشاعر الفرنسي رامبو قبله بأعوام أن الأنا آخر فهو تخطّى صاحب «الإشرقات» جاعلاً من الأنا أربعة آخرين.
______
*الحياة