*بسمة النسور
في أي حال، ليست من الحكمة والتروّي وبعد النظر وعمق التجربة، بل هي مجرد حالة طيشٍ وحماقةٍ وتسرع، وقلة تدبر قد تترتب عنها عواقب وخيمة، في أحيان كثيرة. ومن دون شك، هي جملة استنتاجات خاطئة مبنية على مقدماتٍ مضللة ومجاملات زائفة ، حين نعتقد أن انطباعاتنا عن الآخرين صحيحة بالضرورة، فالحدس مهما بدا حادّاً، إلا أنه من الممكن أن يقوم بخديعتنا بسهولة، فيخيل إلينا أننا نعرف شخصاً ما حقّ المعرفة، إلى درجة منحه رتبة صديق قريب وحميم، لمجرد حدوث توافق لحظي، في مناسبةٍ عابرةٍ، متوهمين الوقوف على حقيقة شخصيته: طريقة تفكيره، ميوله وطباعه، مزاجه وأخلاقه، نقاط قوته وضعفه، بل لا بد من الجزم بأن تلك المعرفه ستظل في منطقة الالتباس والغموض، ما لم نخضعها للتجربة والاختبار.
ومع التسليم بالبعد الفلسفي لمقولة ابن عربي “القرب حجاب”، فإن القرب، بمعناه المادي الإجرائي، الذي يتيح اطلاعاً أكثر وضوحاً على جوهر الآخر، ضرورة استراتيجية، تحول دون أن يتورّط المرء في علاقاتٍ مع أشخاصٍ غير جديرين، مراوغين بطبيعتهم، ويمتلكون مهارة التمويه والادعاء، ما يؤكد أن القرب قد يكون محض عقابٍ. كثيرا ما يقال إذا أردت أن تعرف مدى متانة العلاقة الإنسانية مع شخص ما وصلاحيتها، عليك أن تسافر بصحبته، عندها سوف تحرق مراحل كثيرة، وتتكشف، وبسهولة، تفاصيل قد تكون صادمة وغير متوقعة لكلا الطرفين. ويحدث كثيراً أن تتعزّز صداقاتٌ قائمةٌ منذ عقود، أو تموت في أرضها، إثر سفر مشترك، لا يتعدّى أياماً، يعرب، على إثرها، أحد الأطراف، أو كليهما، عن الاختناق، بناء على تلك التجربة غير السارة.
البشر بطبيعتهم بحاجة إلى الإبقاء على تلك الغلالة الضرورية، أو المساحة النفسية غير القابلة للاختراق، تجعلهم في منأىً عن الانكشاف التام، وذلك ما يكفل للعلاقات الإنسانية، على اختلاف مسمياتها، استمراراً آمناً ومريحاً، يتخلله تواطؤ متفق عليه بين جميع الأطراف، قد يبدو هذا الاستمرار مغشوشاً، في أحيانٍ كثيرة، غير أنه يبقى عاملاً أساسياً ومهماً لتأجيل الخيبات، نظرا لغياب عنصر المكاشفة، المسبب لوجع الرأس، في أحيان كثيرة.
ويغدو الإنسان أقلّ حرصاً على هذه الغلالة في الظروف الاستثنائية، كحالات التعرّض لخساراتٍ في الأرواح والممتلكات. عندها يبدو الواحد منا هشّاً ضعيفاً فاقداً كل أدوات الادعاء، فيتصرّف بعفويةٍ، وفق طبيعته، من دون تحفظاتٍ تذكر، غير قلقٍ جرّاء الانطباعات المتكونة عنه لدى الآخرين، بل سيصبح رأي الناس، في حالاتٍ كهذه، آخر همومه.
وتعتبر علاقات الشراكة، بكل أشكالها، حقلاً من الألغام القابلة للثوران في أي لحظة، حيث يتخلى أطراف النزاع عن مفردات الدماثة واللياقة الاجتماعية، عند أول تضارب مصالح.
وتظل علاقة الزواج الشائكة الحافلة بالمطبات النموذج الأكثر خطورةً في هذا السياق، إذ يتصرف الزوجان، في البدايات، بتكلفٍ مفرط، عاجزين عن الإفصاح عن دواخلهما بجرأة ووضوح، خشية خسارة العلاقة. ويحاول كل منهما تقديم نفسه بأجمل صورةٍ ممكنةٍ، إلى أن تكتمل الورطة بالارتباط الرسمي، حيث لن ينفع الندم. ويبدو مضحكاً الجواب التقليدي الذي يقدمه أهل العروس للخاطب بأن أعطنا مهلة كي نسأل عنك! “طيب تسأل مَنْ عن ماذا يا عمي؟” وهل يكفي تجميع كمشة انطباعاتٍ متهورةٍ عن بعد، كي نبارك زواجاً، المفترض أنه طويل الأمد، سوف يربط مصائر، ويرتب علاقات مصاهرة وقرابة دم؟
ما يحدث بعد ذلك، وما أن تنقضي “جمعة الخطوبة المشمشية”، حتى يسقط القناع عن القناع، مرة وللأبد، ويواجه كلا الزوجين تبعات المقلب الباهظ، حين تتكشف العلاقة بصيغتها الدائمة عن تنافر شديدٍ في الطباع والميول، قد يطاول أدقَّ التفاصيل، ويحيل حياتهما معا إلى جحيمٍ دائمٍ، بحكم الاستمرار القانوني لخيبة الأمل.
_____
*العربي الجديد