طفل صغير.. حالم


*محمد مراد أباظة


خاص ( ثقافات )
الطفل.. الطفل الصغير.. الطفل الصغير الحالم وقف، ذاتَ يوم، قبالة جدار الغرفة وفي يده طباشير ملوَّنة، وراح يفكِّر.. بعد دقائق رسم على الجدار مساحةً واسعة لوَّنها بالأزرق فكانت بحراً، على سطح البحر رسم قارباً، ولوَّنه بالأخضر، ورسم للقارب شراعاً، ولوَّنه بالوردي، وفوق البحر والقارب رسم طيوراً مبسوطة الأجنحة، وفوق البحر والقارب والطيور رسم وجهاً دائرياً مبتسماً، ولوَّنه بالأصفر، فكان شمساً.
تراجع الطفل إلى الخلف، وبعينين نصف مغمضتين تأمَّل عملَه. فكَّر لثوانٍ، ثم أسرع فرسم في القارب طفلاً صغيراً.. طفلاً صغيراً ذا وجه ضاحك وشعر مبعثر الخصلات.
نفض عن يديه غبار الطباشير، تراجع ثانيةً إلى الخلف، تأمَّل، فكَّر للحظات، ثم رفع يمناه وأمر البحر، فبدأت أمواجه الصغيرة الناعمة تتراقص برشاقة، وأمر القارب، فانطلق متهادياً على الصفحة الزرقاء، وأشار إلى الطيور، فرفرفت بأجنحتها، ورافقت القارب في رحلته مزقزقة.
وعلى القارب كان الطفل ذو الوجه الضاحك يبحر سعيداً ونسائم البحر تداعب وجهه، وتعبث بخصلات شعره.
ذلك الطفل.. الطفل الصغير.. الطفل الصغير الحالم استلقى على ظهره شابكاً أصابع كفَّيه خلف رأسه، واستغرق في تأمُّل القارب وهو يبتعد رويداً رويداً باتجاه الأفق، والطيورَ وهي تواكب رحلةَ القارب، وأغمض عينيه مبتسماً بحبور وهو يصغي إلى وشوشات الأمواج، وخفق الشراع، وزقزقة الطيور.. مستمتعاً بدفء الشمس.
وفجأة.. انتفض الطفل بفزع، وهبَّ واقفاً على صرخة أُمِّه التي اقتربت منه، وشدَّت إحدى أُذنيه معنِّفةً وهي تشير إلى الجدار، ثم خرجت مغمغمةً بغضب.
أما الطفل.. الطفل الصغير.. الطفل الصغير الذي كان يرتجف خوفاً فقد راح يُنقِّل نظره بذهول بين البحر وباب الغرفة متسائلاً، بينه وبين نفسه، باستغراب عن سبب يُبرِّر غضب أُمِّه إلى تلك الدرجة.
عادت الأم ممسكةً بخرقة مبلَّلة، وراحت تمسح بها الجدار مثرثرةً دون انقطاع، وهو يتابع بحزن ما تفعله.
حاول الاعتراض، فتح فمه للإفصاح عما في داخله، لكنَّ الكلمات لم تسعفه، فطفرت من عينيه دمعتان وتدحرجتا على وجنتيه.
وفي لحظات كانت الأم قد مسحت كلَّ شيء….، فأسكتت الأمواجَ وخفقَ الشراع وزقزقة الطيور، وأطفأت الشمس. وعاد الجدار أبيضَ حياديّاً بارداً.. كما كان.
الأم وهي تمسح كلَّ شيء غاضبةً لم تنتبه، لم يخطر ببالها أن تنتبه، لم يُفسِح لها غضبها المجالَ لتنتبه إلى أن الطفل الصغير ذا الوجه الضاحك وخصلات الشَّعر المبعثرة.. الطفل الصغير الذي أبحر، قبل لحظات، ذاك الطفل الذي مسحته.. كان… ابنَها.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *