رمزية المحو في ديوان «سيرة شرفة» للمغربي عبد الرحيم جيران


*ليندا نصّار


في ديوان الأديب المغربي عبد الرحيم جيران «سيرة شرفة» الصّادر عن دار النّهضة العربية 2016، تنعكس ذاته في مرايا المكان؛ يبدو هذا الأمر جليًّا من خلال الحوار الّذي يدور بين الشّاعر والشّرفة، وللمكان تأثير كبير في الإيحاء بالشّعر، وليس المكان في نهاية المطاف غير ما يؤثثه، ويصير رمزا يشير إليه؛ أي المرأة التي تطل من الشرفة، والتي تصبح مدينة الدّار البيضاء مرئية من خلالها باعتبارها المدينة المشتهاة الّتي تمنّى الشاعر العودة إليها يوما، من دون أن تتحقق؛ حيث يظل أثرها وحده الممكن المحفور في نفسه.
في صمته، يبدو الشّاعر غارقًا في الحالة الشّعريّة، فيطلق قصائد محكمة الرّموز جمعها طوال سنوات حياته. إنّ اللّقاء مع الشّرفة هو لقاء الذّات مع المكان خارج الزّمن الحاضر، فنجده في تآلف مع زمن مضى حصّل فيه خبرته، ومعرفته بالنّاس، والحياة والعالم.
إنّ أزمة العودة إلى الأصل متجذّرة في القصائد؛ فالأمس يتمثّل في مفردات الشّوق والحنين. ويظهر هذا التّأمّل الوجوديّ في لحظات القصيدة الممتدة، من خلال تنويع في الأساليب والصيغ؛ وهذا التنويع هو نتاج تجارب الشاعر السرديّة التي مكنته من أن يشرّع باب الشّعر على الحاضر والمستقبل، وهنا نلحظ تجديدًا يتمثّل في انفتاح الشّعر على كافّة الأجناس الأدبيّة.
إنّ الحواريّة العالية في الدّيوان كشفت عن الحالات الإبداعيّة وعمق تجربة الكاتب، فبدا لنا هذا الدّيوان حكمة وجود، ونصيحة الزّاهد المتأمّل، الّذي يرتقي بالشّعر عن انحطاط العالم. ويظهر هذا الحس التأملي الوجودي في الحلم بالدار البيضاء، لكنّه يطرحه بطريقة فلسفيّة عن طريق التّرميز، الّذي حمّله أبعادا جديدة وهذا ما يميّز تجربته؛ فهناك عبقريّة شعريّة تتبدّى من خلال توظيف الشّاعر رؤياه في الدّيوان فتتسرّب إلى المتلقّي لتسكنه الحالة نفسها.
«رقمها في سجل الولادة رقم 12، واسمها له نكهة إسبانية، ومشتق من الثلج، هي امرأة، من حيث اللفظ، لكنها من حيث الكيان هي مأوى لتاريخ لم يعرف كيف أن يكون تاريخا».
في تصدير الدّيوان يشير الشّاعر إلى الدّار البيضاء، وكأنّه يدعو القارئ إلى التّفكير في اسمها، فتأتي المعرفة على شكل حزّورة، ولكنّها من نوع آخر؛ فهي ترتدي أبهى الصّفات: هي مأوى التّاريخ… فالرقم 12 في سجّلّ الولادة هو مجموع حروف المدينة، وهو السنة الدالة على الفصول الأربعة في تقلباتها. كما يدل الرقم 12على اكتمال المدينة في تخييل الشّاعر، إنّه المكان الّذي يتّخذ قيمة المرأة ويحلّ محلّها، ما يدل على علاقة عشق بين الذّات الّتي تتّوحد فيها».
كيف أعود إلى جنتها/ التي ضاعت مني ذات نهار في لحظة سهو…». في هذه الكلمات، عبّر الشّاعر عن ضياعه على الرّغم من خبرته المختمرة، إلّا أنّه يتحوّل إلى آدم الّذي طرد من الجنّة وسهوًا فقدها. هنا يبدأ التّرميز يتّخذ مكانة عالية في الدّيوان وسنلاحظ ذلك تباعًا من خلال القبض على حروفه في ما بعد. في مكان آخر يرتدي الشّاعر زيّ الحكيم الزّاهد في حياة يملؤها أشخاص كأنّهم شرّدوا معنى الشّعر، فغيّروه وجرّدوا الشّاعر من تاجه، أنزلوه بكلّ قسوة عن عرشه وجلسوا مكانه، فمتى يعاد إليه اسمه ومن يرجعه إلى مكانه. «ينبغي أَنْ نجدَ أسماء للقسوة/ للحقد/ للكراهية/ للشعر الذي يحمل أسماءَه الأغبياءُ»؛ هذه الذّات الشّاعرة أو الأنا المتفتّتة في المكان (المدينة) ترجوه- أي ترجو الشّرفة- أن تكون على حذر، يدعوها إلى النّظر والتّحديق في الأنانيّة القابضة على الوجود… لن يقولوا حقيقة الدّار البيضاء، سيرسمون الصّورة الّتي أرادوها لها تماما كما هو مجتمعنا اليوم مبنيّ على الذّاتيّة والأنانيّة بعيدًا عن الموضوعيّة. «إذا مرُّوا ذاتَ مساءٍ يتيم/ تحت شرفتِكِ/ في ثوبِ الملائكة/ لن يلتقطوا لَكِ الصورةَ التي تحبِّين/ ما زلتُ طفلًا يحلم قرب ظلّ القمر/ بكلّ الأوهام القديمة».
نرى تباعًا من خلال الأسطر اللاحقة أنّ الشّاعر يلقي عنه ذنب خروجه من هذه الجنّة؛ إذ وجد نفسه فجأة منتزعًا منها، لم تكن الأمور في يده ولو كانت لعاد إليها رغمًا عن الجميع: «لم تَكُنْ لي يدٌ في ما جرى../ أفقتُ ذات لحظة/ فوجدتُني منزوعًا منكِ/ مثلَ أيّ ورقة عبث بها/ اترُكي الشرفة/ لا تنتظري عودةَ أشرعة لَمْ تُبحرْ أبدًا، فَكَمْ بيني ونفسي من حروب/ وبيني واللاشيء/ من مسافة». في الأسطر الشعرية يعبر الشاعر عن الحلم باعتباره فقدانا يشير إلى تحولات جارفة أصابت المكان، ولم يكن هو السبب في ما حدث، بل كان مصابا أيضًا بألم الإقصاء من جراء قوى الهدم. لكن الأصعب هو انشطار الذات التي تتحارب أجزاؤها في ما بينها، وانحفار الهوة بينها وبين الفراغ (اللاشيء). الشاعر يتمرد على كل شيء على أبوة العالم، وعلى الأصل، وعلى التاريخ الذي ترمز إليه الحكاية. إنه يمحو كل شيء بعد أن يشير إليه «ولدتُ من غير حبل سرّة/ وحين كبرتُ كان العالمُ أبًا عقيمًا/ فلِمَ تُصرِّين على البحث في سلَّة الأسماء/ عن جذر تربيعيٍّ لأَصْلِي.. كلُّ الحكايةِ/ أنّني من دون حكايةٍ». ويظهر هذا بأن الشاعر يمحو الحلم بعد أن يثبته، ومن خلال ذلك ينكر حتى نفسه، ومهارته في أن يكون مثل الناس يتذكرون أحلامهم: أنا مجرَّدُ حالمٍ/ لا يعرفُ الاحتفاظَ بصور الليل/ ما زلتُ أذكرُ الطفلَ الذي كان يدفعُ حياتَه أمامه/ كان حلمُه لا يتعدّى العودةَ بظلِّه سالمًا/ من قسوة الكبار../ قليلًا من الصبر/ هذا ما تبقّى لي/ الأوراق ُالتي راهنتُ عليها/ كانت أكثرَ من خاسرةٍ/ إلا ورقتَكِ/ لأنّني لم ألعبْها/ وحين قرّرْتُ أن أُقامرَ بها/ اكتشفتُ أنّ تاريخَ صلاحيتها انتهى.».. حين يمارس الشاعر المحو متمردا على كل شيء بما في ذلك الذات نفسها لا يبقى أمامه سوى ورقة المكان؛ والورقة هنا هي التذكر واستعادة ذاكرة الشرفة، فلا مكان من دون ذاكرة، غير أنه لا يلبث أن يمحو حتى هاته الورقة؛ لأن كل شيء صار مستحيلا بفعل فقدان الزمن الذي كان يمكن أن يحدث فيه. فلم تعد للذاكرة صلاحيتها بفعل فقدان الزمن الذي يكون صالحا لأن تشتغل فيه. وينهي الشّاعر ديوانه بهذه الدفقة الشعورية:» اتركي الشرفةَ..!».
موجها الخطاب إلى المدينة- المكان- الحلم- المرأة، وهي دعوة أخيرة للاقتناع بأن ما جرى هو أكبر من أي محاولة لإعادة المحاولة من جديد. فالمكان صار مملوءا بكل أشكال التشوهات والمسوخ.
_________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *