*جهاد فاضل
إذا ذُكر الأدب المهجري، تداعت إلى الذهن على الفور ثلاثة أسماء هي: “جبران خليل جبران”، “ميخائيل نعيمة”، و”أمين الريحاني”، وهي أسماء مترابطة إلى حدّ بعيد.. فـ”جبران” و”نعيمة” كانا من عُمد “الرابطة القلمية” في نيويورك، وقد جمعتهما نوازع روحية وأدبية متقاربة، وينظر بعض الباحثين إلى “الريحاني” على أنه الرائد والملهم لحركة الأدب المهجري؛ لأسباب مختلفة منها أنه كان الأسبق في الزمن من حيث العطاء الأدبي، ومع أنه لم يكن عضواً في “الرابطة القلمية”.
إلا أن عددا من الباحثين يذكر أنه كان واحداً من أعضاء “الرابطة القلمية” الأولى قبل أن تنحلّ، وأيا كان الرأي في هذه المسألة، فقد تلاقى الثلاثة زمناً في نيويورك في الربع الأول من القرن العشرين، على الخصوص، قبل أن يغادر “الريحاني” الولايات المتحدة في رحلاته المشهورة إلى البلاد العربية، ليؤوب منها من جديد إلى الولايات المتحدة يقيم فيها حيناً، كما يقيم في لبنان حيناً آخر، أما “نعيمة” فقد ترك نيويورك نهائياً في منتصف الثلاثينيات عائداً إلى لبنان، وذلك بعد وفاة “جبران” عام ١٩٣٢م.
ولكن إذا كانت هذه الأسماء الثلاثة مقترنة في الذهن العام على هذا النحو، فهل كان الود سائداً بينها، أم كان التنابذ، أو التحاسد والبغضاء؟ يقدّم “نعيمة” في كتابه “سبعون” ما يساعد في الإجابة على هذا السؤال، ففيه يسرد حكاية “الرابطة القلمية”، وحكاية الكتاب الذي وضعه عن سيرة “جبران” بعد عودته إلى لبنان، والنهج الذي نهجه في كتابته، وما أثاره من جدله أو لغط يومها، ذلك أن كثيرين ممن قرأوا الكتاب اعتبروا أن “جبران” “نعيمة” ليس هو “جبران” الحقيقي، وأن “نعيمة” شوّهه وتقصد الإساءة إليه لغرض في نفسه؛ وهو الإجهاز على “أسطورة جبران”، لتنهض على أنقاضها أسطورة أخرى هي أسطورة “نعيمة”، ومن هؤلاء الذين صرخوا محتجين على ما فعله “نعيمة”، ثالث الاثنين: “أمين الريحاني”، فعندما اطلع على الكتاب، نشر في إحدى الصحف اللبنانية مقالاً نارياً حوله، عاد “نعيمة” وردّ عليه بعد أيام في الصحيفة نفسها وبمقال ناري أيضاً.
ومن الاطلاع على هذين المقالين اللذين صيغا بأسلوب الرسائل المفتوحة، يمكن للمرء اليوم أن يستنتج الكثير عن تلك العلاقة المتأزمة والمشحونة بشتى المشاعر المضطربة بين الأصدقاء الثلاثة، إن صح القول بأن الرابطة التي كانت تجمعهم قابلة لاعتبارها رابطة صداقة.
يبدأ “الريحاني” بإطلاق النار على “نعيمة” منذ السطور الأولى لرسالته. ولأهمية هذه السطور في التعبير عن ذات الصدور، كما يقولون، نوردها حرفياً، فهي تنص على ما يلي: “أخي ميخائيل – حفظه الله-، تفضّلت فأهديتني نسخة من كتابك جبران خليل جبران فأشكرك وأدعو لك بالمزيد من الإثمار الأدبي، ولكني رأيت في جذع شجرتك أثراً للسوس، أخشى عليها منه، وجئت أعلمك بذلك لأني معجب بها وبثمارها.. وبكلمة لا استعارة فيها، لقد بان لي وأنا أطالع الكتاب أنك ما أشفقت على أدبك من أنانيتك ومما أمسى عندك، على ما يظهر، شبه مهنة”.
ويفنّد “الريحاني” ما ورد في كتاب “نعيمة” من ظلم بحق “جبران”، ومما يقوله: “ومن قال لك ما قال جبران في قلبه؟. أجبران نفسه الذي تصفه أنت، ونعرفه نحن، حريص على ما بقلبه، شديد التكتم والتستر؟ فإذا كان في أعماقه أمنية لا يجرؤ أن يبوح بها إلى نفسه، كما تقول، فكيف يبوح بها إليك أو إلى سواك؟ أنت تعلم أنني لم أكن قريباً من جبران قربكم في السنوات العشر الأخيرة من حياته”.
وأضاف قائلا: “ولكني عرفته قبل أن عرفتموه، وأحببته قبل أن أحببتموه، وسبرت بعض أعماق قلبه قبل أن جعلتم سبر القلوب مهنة لكم.. إني أحفظ، وسأحفظ ما دمت حياً، أطيب الذكريات لحب نشأ في باريس ولندن، ونما ونوّر في شارعين متقاربين بنيويورك، وعرف شيئاً من مكنونات قلبين غربيين في بلاد الغربة، ومن امال روحين ساميتين تنشدان الحقيقة والجمال، ومن أباطيل نفسين ساذجتين في مدينة قلنا فيها قبلك ما قلته أنت اليوم”.
ويضيف “أمين الريحاني”: “إنني معجب بأدبك، فأوده منزهاً عن كل ما يشوبه من الأنانية الجارحة، ومن الاسترسال في التحقير والتزييف، ومن التنكيت إلى حد التعنت، ومن التعميم في مواقف الجد، ومن سخافات سيكولوجية هي زبد النفس العاقلة لا جوهرها”..
وقبل أن يورد “نعيمة” في “سبعون” نص رده على “الريحاني”، يمهد ببعض الفقرات، حين قال: “إن غاية الريحاني من كتابه إليه هي قتل عصفورين بحجر واحد: لقد أراد أن يبيّض صحيفته مع جبران في لحده، ومع آلاف المعجبين بجبران في لبنان، وباقي الديار العربية وغير العربية، ثم ليقضي على أديب بات يخشى منافسته”.
مضيفا: “لقد كان الريحاني أكبر أدباء المهجر سناً وأبعدهم شهرة في بدء نشأة الحركة الأدبية العربية في نيويورك، وكان جبران يتمنى لو تصبح له شهرة الريحاني، ولكن من بعد أن اشتدت قوادم “جبران” وأخذ صيته في الامتداد، تنكر له “الريحاني”، فكان بين الاثنين جفاء دام 12 عاماً، فلم يبصر الواحد في خلالها وجه الآخر ولا سمع صوته، ومات “جبران” والجفاء بين الاثنين مقيم”.
وأضاف “نعيمة”: “ها هو “الريحاني” في كتابه المفتوح يسكت عن ذلك الجفاء أو يموهه، ويمضي يصف ما كان بينه وبين “جبران” من المودة وصفاً يقصر دونه الشاعر الولهان، وهو يرمي من وراء هذا الوصف، إلى إيهام القارئ بأن علاقته مع “جبران” كانت حتى النهاية في مثل ذلك الصفاء والجمال، ويرمي إلى التعريض بي وبالمودة التي كانت بيني وبين “جبران”، فما أحسنت صيانتها مثله. فهل أسكت أم لا أسكت”..
ولا يسكت “نعيمة” بل يتكلم، ويشن حملة شديدة القسوة على “الريحاني”، ويفند زيفاً ما تضمنته رسالته، فـ”الريحاني” بنظره كاذب في ادعاء المودة والصداقة مع “جبران”، و”جبران” حمل عصاه ذات ليلة ورفعها فوق رأس “الريحاني”، ولو لم يتداركه بعض الحاضرين لما كان “الريحاني” في عداد الأحياء بعد ذلك، وبالنظر لأهمية مسألة الفصل في العلاقة التي كانت بين أقطاب الأدب المهجري الثلاثة، نورد حرفية ما ورد في بعض فقرات رسالة “نعيمة” إلى “الريحاني”: “أنت تقول لي في رسالتك: أنت تعلم أني لم أكن قريباً من جبران قربكم في السنوات العشر الأخيرة من حياته، هكذا تقول ولا يغمى على قلمك في يدك، ولا تحمرّ الورقة التي تكتب عليها خجلاً عن مثل هذه الحقيقة التي تصفع الحقيقة ثم تخنقها، ولو صدقت لقلت: أنت تعلم أني كنت منبوذاً وممقوتاً ومحتقراً من جبران في السنوات العشر الأخيرة من حياته”.
ويذكّر “نعيمة” “الريحاني” بتلك الليلة التي رفع فيها “جبران” عصاه عليه، ولو لم يتداركه بعض الحاضرين لما كان اليوم في عداد الأحياء: “ومنذ تلك الليلة لم يَرَ جبران لك وجهاً ولا وقع بصرك على وجهه، لقد مات جبران وهو يمقتك، مات جبران وأنت لا ترى في أدبه أكثر من عاطفة مانعة كريهة المذاق، ولكن وهذا هو العجب، ما جيء بجثمانه إلى هذه البلاد، وكان له ما كان من الاستقبال المفعم بالإعجاب والمحبة، حتى وقفت ترثيه وتسبغ عليه نعم حكمتك وعطفك وتدعوه أخاك الحبيب، وأراك حتى اليوم لا تترك ظرفاً مناسباً أو غير مناسب إلا شهدت فيه بحبك له الصافي كصفاء الفجر”.
هذه بعض الفقرات من رسالة “نعيمة” الغاضبة إلى “الريحاني”، بعدها يخبرنا “ناسك الشخروب” أنه التقى لاحقاً بـ”الريحاني” في بيروت وتصالحا، وأن “الريحاني” دعاه إلى الغداء عنده في منزله “بالفريكة” ولبّى الدعوة.
رسالة “الريحاني” إلى “نعيمة” ورسالة “نعيمة” إلى “الريحاني”، تقدمان فكرة واضحة عن علاقات غير صحية، وغير صافية بين الأدباء المهجريين الثلاثة، “نعيمة” لا ينكر على “الريحاني” أنّه رائد أدباء المهجر، ولكنه يتهمه بالغيرة والحسد من “جبران” في حياته، وبالنفاق والرياء بعد رحيله، إذ يتظاهر كاذباً بالغيرة على إرث “جبران” وسيرته، وبنية تحطيم “نعيمة” الذي حصل بعض السمعة الأدبية..
ولا شك عندي أن “الريحاني” عندما تصدى لـ”نعيمة” كان يتصرف كسياسي أكثر مما كان يتصرف كناقد أو حتى كصديق، لقد كانت له أغراض في هذا الحدب المفاجئ الذي أبداه على “جبران”، وهو حدب لم يخف الهدف منه على “نعيمة”.
كما لا شك أن “نعيمة” كتب ما كتب عن “جبران”، لا خضوعاً لمقتضيات منهج، أو لمستلزمات الوقوف أمام محكمة التاريخ، إنما كبداية لمهمة جعلها إحدى مهمات حياته الأدبية والأساسية فيما بعد، وهي تحطيم “أسطورة جبران” وتنصيب أسطورته هو محلها، فكتابه عن “جبران” كان البداية لا أكثر لأن ما كتبه، أو صرح به في الصحافة، وفي مجالسه، كان أشد وأدهى؛ مما عدد في كتابه عن “جبران”، فـ”جبران” كان صديقه في الظاهر، وعدوه في الباطن، ولم تعرف حربه على “جبران” أية هدنة على مدار حياته.
أما “الريحاني” فقد كان يرى نفسه أفضل من الاثنين لا لريادته فقط، بل لسعة أفقه وشمول مشروعه قضايا أمته العربية ومصيرها ومستقبلها، أيضاً كان “جبران” و”نعيمة” مجرد أديبين بالمعنى المعروف للكلمة، يكتبان قصصاً وينظمان شعراً رديئاً حيناً أو غير رديء حيناً آخر، في حين كان “الريحاني” مفكراً وأديباً معاً، وكان هذا المفكر والأديب يتعالى على صاحبيه هذين، ويرى نفسه فوقهما، وهذا ما يستنتجه الباحث اليوم وهو يدقق في مجمل الإرث الذي تركه الأدباء الثلاثة الكبار.
________
*جريدة الرياض