*د. العادل خضر
حضارة بمختلف مؤسّساتها وهياكلها وأنظمتها على إقصاء هذا العنصر حتّى تتوافر أسباب وجودها؟ يجيبنا الفيلسوف الألماني بيتر زلوترداك Peter Sloterdijk، أحد من فكّر في مسألة الهلع، بأنّ الإبقاء على هذا العنصر والمحافظة عليه بكلّ السّبل هو من أسباب وجود الحضارات وقيامها واستمرارها. ونجد هذا التّصوّر عند بول فيريليو Paul Virilio الذي تبنّى في كتابه «إدارة الخوف» أطروحة أنّ الخوف هو وسيلة من وسائل الحكم لمّا بيّن أنّ الخوف ظل منذ المجتمعات ذات الأصول المونارشيّة إلى المجتمعات الدّيمقراطيّة يمثّل عنصراً ثابتاً في وسائل الحكم. ومازلنا نراه اليوم، أي سلطان الخوف، متحكّماً بسلطة المصلحة العموميّة باسم المصلحة العامّة.
يذهب فيريليو بعيداً في تحاليله، مستنتجاً أنّ الخوف كان موضوع عناية ورعاية بوسائل أخرى. ففي البداية كان الخوف يُرعى بالخوف النّوويّ، ثمّ بالخوف الإرهابيّ، فبالخوف البيئيّ الإيكولوجيّ. ويستحضر فيريليو ثلاثة ضروب من الخوف هي: توازن الإرهاب، واختلال توازن الإرهاب، والخوف الإيكولوجيّ. أمّا الخوف من الإرهاب فقد كفّ بسقوط حائط برلين، فاسحاً المجال لنوع جديد من الإرهاب موسوماً بالاضطراب وفقدان التّوازن هو ما نسمّيه اليوم بظاهرة الإرهاب السّياسيّ الّذي لا نعرف متى يضرب وينفجر، في لندن أم نيويورك، في مدريد أم فرنسا، في تونس أم في بغداد، في لبنان أم في ليبيا…؟ أمّا اليوم فنحن نعيش حالة جديدة من الهلع عظيمة هي الخوف الإيكولوجيّ أو البيئيّ. هذه الأنواع الثّلاثة من الهلع قد تناولها بعض الفلاسفة بالدّرس جاعلين من التّأمّل الفلسفيّ شكلاً من أشكال «فكر الخارج» la pensée de dehors أو «الفكر خارجاً» أو «من الخارج» الّذي تحدّث عنه بلانشو ثمّ فوكو في بعض ما كتب.
الخوف النّوويّ
ففي خصوص الخوف النّوويّ، أو التّفكير في الكارثة يثير الفيلسوف الألماني بيتر زلوترداك مسألة تتعلّق بإمكانيّة وجود الحضارات الحيّة بفضل احتكاكها بتجارب الهلع. ويثير هذا النّوع من التّجارب السّؤال التّالي: هل تحتاج هذه الحضارات إلى الكارثة؟ ألا تكون الكارثة شيئاً لا يمكن الاستغناء عنه لأنّه ضروريّ في تطوّرها ونموّها؟ ألا يكون النّاس في حاجة إلى الكارثة لأنّه ينبغي تربيتهم، ولا يمكن تربيتهم إلاّ بواسطة التّعليم بالكارثة؟ لنسجّل أنّ هذا الضّرب من التّعليم قد حصل لأوّل مرّة بمناسبة الحادث الّذي طرأ على مفاعل هاريسبورغ Harrisburg سنة 1979، (أو ما يعرف بكارثة Three Mile Island). فبخروج المفاعل عن كلّ سيطرة وتحكّم، وتهديد الآلة الجهنّميّة بالانفجار في كلّ لحظة، كان النّاس يمسكون بأنفاسهم هلعاً لأنّهم لم يكونوا على علم بما يمكن أن يحدثه الانفجار من دمار ساحق فحسب، وإنّما كانوا عاجزين عن تحديد المسافة الآمنة الّتي تضمن سلامتهم وبعدهم من ساحة الحدث.
ورغم هذا الهلع فإنّ حادثة هاريسبورغ بولاية بنسلفانيا قد كان لها تأثيرات عميقة على الرّأي العامّ بالولايات المتّحدة الأميركيّة. فقد كشفت ما في البرنامج النّوويّ من ثغرات. كما ساهمت حالة الذّهول الّتي عمّت خلال الأيّام الأولى من الحادثة في مضاعفة قلق السّكّان بسبب حوادث نوويّة أخرى حديثة العهد. ولعلّ من أبرز تبعات هذا القلق فقدان الثّقة في الطّاقة النّوويّة على نحو شبيه بالعدوى تجاوز الولايات المتّحدة الأميركيّة ليشمل السّويد وبلجيكيا وبلداناً أخرى. ذلك أنّ كارثة «ثري مايلز أيلند» قد بيّنت بما لا يرقى إلى الشّكّ محدوديّة الإجراءات الوقائيّة الّتي يمكن أن تتّخذ في مثل هذه الحوادث، ولكنّها كانت منطلقاً لتفكير فلسفيّ عميق في مسألة الزّمن السّياسيّ وعلاقته بعمل الميديا الحديثة ودورهما في صناعة مناخ سياسيّ جديد. والمقصود من عبارة الزّمن السّياسي هو ما ذهب إليه الفيلسوف الإسباني دافيد إينيرارتي Daniel Innerarity من أنّ السّياسة مكرهة اليوم على أن تفكّر في نفسها بوصفها حكماً في الزّمن، أو زمنيّة سياسيّة chronopolitique. فلم يعد من مشمولاتها العناية بالفضاء والموارد الطّبيعيّة أو العمل فحسب، وإنّما العناية بإدارة الزّمن والتّأثير في الشّروط الزّمنيّة للوجود البشريّ، وتعديل سرعة مختلف الأنظمة الاجتماعيّة، وتشكيل الإيقاع الدّيمقراطيّ. بهذا التّصوّر يضحي الزّمن السّياسيّ دالاًّ على أفق هذا الزّمن العموميّ ومناخه. وبهذا التّصوّر كذلك، تضحي الكارثة مجرّد مثال خاصّ من الزّمن العموميّ، وهو زمن تنتجه الأمواج الإعلاميّة والسّياسيّة الّتي تمنحنا صورة خاصّة لا سابق لها من الكارثة.
ففي زمن الإعلام الّذي يدور في الأفضية الانفعاليّة ويروج في الأغوار النّفسيّة، صار من الصّعب جعل الكارثة، بوصفها موضوعاً من التّصميم الإعلاميّ design médiatique، أمراً نسبيّاً، وحينما نعترف بالقوّة الّتي لا يمكن مراقبتها للمدّ الإعلاميّ والسّياسيّ يمكن حينئذ أن نشخّص بشيء من الدّقّة عصرنا هذا، فقد مررنا منذ كارثة هيروشيما من الخوف من الكارثة إلى طور صناعتها، وتشكيلها جماليّاً وسياسيّاً، فعندما نعود إلى أحداث 2001 نستنتج أنّ حقيقة الكارثة أقرب إلى الجماليّة منها إلى الأخلاق، فقد صرنا لا نريد التّمتّع جميعا بهذا الشّيء المفرط في العظمة démesure فحسب، وإنّما نرغب في صور كارثيّة صادمة تبثّها القنوات التّلفزيّة مباشرة. هذه الرّغبة قد هيّأت المجال لظهور «سياسات الخوف» الّتي مازلنا نشعر بتأثيراتها إلى اليوم، فمنذ ذلك الوقت صارت حالة الطّوارئ هي المعيار، والاغتيال الإرهابي متوقّعاً منتظراً ممّا خلق أجواء شاملة ساهمت في تشكيل هيئة الحكم والتّحكّم في العالم، ومن ثمّة لم يعد بمقدور أيّ بلد الخلاص من قبضة هذا الزّمن الجديد، زمن الهلع، هذا الإحساس بالخوف الّذي يوحّدنا جميعاً، فما ظلّ كامناً في حوادث 2001 هو تحوّل الزّمن السّياسيّ إلى مناخ عامّ ومحيط من الخوف قد فرضا علينا أن نراجع متصوّر الفضاء العموميّ ومراقبة الانفعالات حتّى يتيسّر دمجها على نحو سليم في الحياة السّياسيّة، ففي الأحاسيس يوجد شكل من التّجربة الاجتماعيّة ينبغي أن نميّز فيها بين المخاوف السّلبيّة والإيجابيّة حتّى لا ينقلب مناخ الإحساس بعدم الأمان إلى إحساس عارم بالهلع، ففي الأحاسيس الإيجابيّة علامة على التزام ومشاركة في الحياة السّياسيّة. وليست دلالة الأزمات والكوارث، إذا فهمت بوصفها مناخات سياسيّة، سوى دعوة إلى حكم سياسيّ مشترك في الزّمن والمناخ، ذلك أنّ السّلم، وإن لم تكن، ولن تكون، بمأمن من الأزمات، إنّما هي في النّهاية مناخ ملائم للحرّيّة، وأجواء منفتحة ينبغي حمايتها في حدود الدّيمقراطيّة.
الخوف من الإرهاب
أمّا في خصوص الإرهاب السّياسي، فقد أصبح ظاهرة عالميّة ما فتئت تتّسع رقعته الجغرافيّة منذ حادث تفجير مبنى التّجارة العالمي يوم 11 سبتمبر 2001. ويرى الفيلسوف الفرنسي التونسيّ الأصل، مهدي بلحاج قاسم، أنّ هذه التّفجيرات الانتحاريّة إن وجدت في الخطاب الإسلامويّ تمثيلاً لها في خطاب الشّهادة وسجلّ الشّهيد الدّينيّ، فإنّها لا تجد في الخطاب الغربيّ بكلّ تنويعاته الفلسفيّة والقانونيّة والأدبيّة… أيّ تمثيل، لأنّه حدث فريد خارق للعادة بسبب خروجه عن المعتاد. ولعلّ ما يسمّى اليوم باسم «الإرهاب» إنّما هو الوَقْع الّذي تخلّفه الأحداث العنيفة حين تنبثق (عكس الحرب) دون سالف إنذار ولا توقّع ولا حسبان. إنّها أحداث مباغتة، تنفجر بخرقها للمعتاد، فيقلبها ذلك الانفجار أحياناً إلى كارثة، بعد أن فقدت التّمثيل الّذي كان يجعلها معتادة وداخلة في مجرى العادة.
ويرى مهدي بلحاج قاسم أنّ للحدث بنية الاغتصاب، بل له سمات الفظيع الّذي لا يطاق ولا يحتمل، ووقع الحدث الصّادم الّذي لا يحتمل هو ما يرفض الغرب مثوله وحضوره بوصفه تهديداً مادّيّاً للحياة اليوميّة، ولذلك لا يريد مواجهته إلاّ في التّمثيل، أي في الخياليّ، بواسطة الفنون (كأفلام الرّعب) والملاهي والألعاب، حيث يجد فيها المستهلك أو المتفرّج ما يثير من الانفعالات أشدّها قرباً من الخوف الأصليّ. فلا أحد يرغب في خوف حقيقيّ ماثل في الواقع، ولذلك تسعى الحضارة الغربيّة إلى حماية أفرادها من هذا اللّقاء الواقعيّ بالأحداث الصّادمة الّتي تبعث على الخوف، فتعمد إلى تعويض الخوف الأصليّ بخوف ثانويّ يمكن العثور عليه في الفنون والملاهي. أمّا في المجتمعات الّتي يكون الخوف فيها ماثلاً بسبب تهديد الأنظمة الدّيكتاتوريّة المستمرّ فهي تفتقر لثقافة إنتاج الخوف بالفنون والملاهي والألعاب، أي الأعمال الّتي تهدف إلى التّخويف بإنتاج الخوف بواسطة تمثيله، فالذّات الغربيّة هي الذّات الّتي تطرد الخوف وتقصيه بمنع مثوله وحضوره، ولكنّها تسترجعه على صعيد التّمثيل. ولذلك حين ينبثق الحدث دون وساطة، يُحدث بالضّرورة وقعاً عنيفاً صادماً من أسمائه الشّائعة اليوم «الإرهاب». وهي تسمية للخوف الغربيّ من هذا الّذي ينجم من الفراغ ليفجّر الحدث الرّهيب، وهو الحدث المرتقب الّذي ما فتئت وسائل الإعلام المرئيّة تحاول ترويضه بالصّورة. وهذا الارتباط الجديد بين الحدث الرّهيب وصورة الحدث المرعب، وبين الحدث العنيف ووسائل الإعلام المرئيّ خاصّة، هو الّذي جعل من الإرهاب ظاهرة مشهديّة في مجتمع الفرجة. وقد تحقّق ذلك بتحويل الهلع الأصليّ النّاجم من الحدث إلى خوف ثانويّ قد تولّت الصّورة صناعته. أمّا أبطال الأحداث فيوجدون خارج الاستديوهات المغلقة، حيث يهيمنون على قطاع العنف الواقعيّ. وهم، بخلاف صنّاع الصّورة، لا يكرّرون الحدث بتمثيله في الصّورة، وإنّما يعيدونه بمشهدته على نحو حيّ بتفجير أجسادهم وأجساد ضحاياهم.
هذا الضّرب من مشهدة الموت يزجّ بنا أحببنا أم كرهنا في وضعيّة استطيقيّة إعلاميّة ديجيتاليّة بالأساس، هي شرط وجود «الأصوليّ المسلم الانتحاريّ» حسب عبارة تجيجاك Žižek. فخارج كلّ مشهد لا يكون لموت «المسلم الانتحاري» أيّ وقع أو تأثير، لأنّ مفهوم الشّهادة بدوره قد تغيّر برمّته وعلى نحو جذريّ في هذا العالم الدّيجيتاليّ. فالانتحاريّ لا ينقلب بمجرّد موته إلى شهيد. فهو في حاجة إلى شاهد يشهد عليه ويشاهد موته، ويحوّل ذلك الموت إلى مشهد فظيع كارثيّ. وهذا الارتباط الجديد بين الموت ومشهد الموت، بين الإرهاب ووسائل الإعلام، هو الّذي يصنع من الإرهاب ظاهرة مروّعة عنيفة، ولا يقلب مشهد الانتحار المسلم إلى شهيد، وإنّما إلى صنف من «الإنسان المقدّس» homo sacer الّذي يسجّل بموته دخوله في حوزة الإلهيّ وانسحابه من الفضاء العموميّ، وانفصاله عن فضاء الجماعة الدّينيّ. وقد تجسّم هذا الانفصال بتحويل هذا الانسحاب من دائرة الدّنيويّ إلى مشهد، ومَسْرَحَتِه بواسطة الجسم الفرديّ الّذي لا يمكنه أن يكون مسلماً إلاّ إذا وضع على جسمه خَتْم الانسحاب وإمضاءه، فأنتج بجسده وفي جسده العلامات الدّالّة على انسحابه. فالمسلم الانتحاريّ هو الّذي يعرض على جسمه، وينشئ بجسمه، آيات انسحابه من العالم بطرق شتّى. هذا الانسحاب هو جوهر الإرهاب، ولكنّه لا يكتمل إلاّ بعرض هذا الانسحاب في فضاء مشهديّ espace scénique يكون مسرحه جسم الإنسان المقدّس، حين يضحي مرئيّاً معروضاً جاعلاً من انفجار جسده وأجساد الآخرين حدّ الفرجة الأقصى. فتحويل الجسم إلى فضاء مشهديّ يَعرض فيه المسلم المنتحر خروجه من العالم، ولا وجوده inexistence فيه، إنّما يترجم شوقاً مستحيلاً للعودة إلى الأصل المقدّس، بانسحابه من العالم الدّنيويّ، أو خروجه العلنيّ من الدّنيا. هذا الانسحاب هو ما تسعى الصّورة اليوم إلى اقتحامه، وهي تقتحمه لتعيد كلّ ما هو مقدّس إلى دائرة الاستعمال اليوميّ الدّنيويّ.
الخوف الإيكولوجيّ
أمّا في خصوص الخوف الإيكولوجيّ فإنّنا نتساءل: هل اختلال التّوازن بين الإنسان والطّبيعة هو شكل جديد من إدارة الخوف؟ يجيب فيريليو بأنّه ينبغي أن نتجنّب أن تؤدّي الإيكولوجيا إلى ضروب الهلع السّابقة. فبعد الشّكل المابين دوليّ للحرب الباردة، ظهر شكل آخر أكثر تعقّداً من الإرهاب، هو الخوف الإيكولوجيّ الّذي يذكّر بمفهوم «ليبنستراوم» Lebensraum الجيوسياسيّ للفضاء الحيويّ. وهو خوف قد خبره فيريليو نفسه إبّان قيامه بالخدمة العسكريّة، فقد وُجدت بألمانيا، عند القيادة العليا للقوّات المسلّحة الأولى الّتي احتلّت فرنسا، صور ويافطات لغابات «محظورة على اليهود». فالفضاء الحيويّ ينشأ بنفي حضور فئة أو شريحة من السّكّان في مكان يعتبر مقدّساً. أمّا اليوم، فإنّ إيديولوجيا الفضاء الحيويّ قد رُكّبت على منوال إيديولوجيا الإيكولوجيا والبيئة. وهنا ينبغي التّفرقة بين ضرورة المحافظة على فضاء حياتنا وإيديولوجيا الفضاء الإيكولوجيّ الّذي يمكن أن نحرم منه بتأثير من إدارة الخوف الإيكولوجيّ.
ويمكن أن نتساءل في هذا السّياق كيف يمكن للإيكولوجيا أو الإيديولوجيا الإيكولوجيّة أن تحملنا على الخوف وتبثّ فينا فزعاً لا يقارن بطبيعة الحال بالإيديولوجيا الكليانيّة؟
يجيب فيريليو بأنّنا بشر فانون، وكلّ ما يهدّد حياتنا يبعث فينا الهلع. فبقاؤنا على قيد الحياة، وبقاء النّوع، وشاغل استمرار النّوع البشريّ حيّاً قد أضحى يمثّل خوفنا الأعظم. وهاهنا يحذّرنا فيريليو بأنّه لا ينبغي أن نخاف، وإنّما ينبغي أن نجابه خوفنا لأنّ الخوف يمثّل جانباً من أسئلتنا الّتي ورثناها من أسلافنا. ففي الأزمة الإيكولوجيّة، وهو مجال من المجالات القصوى إن وجد، يضحي الميل إلى الانتصار والظّفر vaincre أشدّ وأقوى من الجنوح إلى الإقناع convaincre. ولذلك وجب أن نرفض كلّ نزعة شموليّة عولميّة إيكولوجيّة تريد أن ترغمنا على الخوف وتفرضه علينا فرضاً. فهذا الإكراه أو الإرغام يجري دائماً باسم الصّالح العامّ الّذي أصبح موضوعاً ممتازاً للتّرهيب اليوميّ. فالإيكولوجيّون لهم ميل عظيم إلى الحكم وإدارة الحكم بواسطة الخوف. ويعترف فيريليو بأنّه، وإن كان قد عايش الخوف الكليانيّ، شأنه في ذلك شأن حنّا أرندت Hannah Arendt، يشعر بأنّ العولمة الإيكولوجيّة قد صارت ممكنة عبر سياسة «ليبنستراوم» أو الفضاء الحيويّ. بيد أنّ هذا الخوف أو سياسة الخوف قد ظلّت مرتبطة في تفكير فيريليو وفلسفته بالسّرعة. ذلك أنّه يعسر في نظره فهم ظاهر الإرهاب والخوف من غير فهم السّرعة، وجنون السّرعة، حين نؤخذ بسرعة على حين غرّة، ونباغت بسرعة المعلومة. في هذا السّياق تصبح عبارة حنّا أرندت محوريّة، بل بالغة الدّلالة حين قالت «الإرهاب هو تكملة لقانون الحركة». وهذا ما يجري الآن عبر التّعجيل في سرعة المعلومات، سواء أكان ذلك في حادثة سقوط مبنى التّجارة العالميّ، أو انهيار البورصة الماليّة، أو إعصار كينثيا Xynthia، أو كأس العالم لكرة القدم. فنحن نحيا اليوم تزامناً لا مثيل له في الانفعالات وعولمة شاملة للأحاسيس. ففي نفس الوقت يشعر كلّ واحد منّا من سكّان الأرض، في أيّ مكان من هذا الكوكب، بنفس الخوف والهلع، بنفس الانشغال على المستقبل… ويبدو الأمر خارقاً للعادة عند فيريليو بل لا يكاد يصدّق، فقد انتقلنا بسرعة من تنميط الآراء، وهو تنميط قد أضحى ممكناً بفضل حرّيّة الصّحافة، إلى تزامن الانفعالات. فقد أصبحت أمّة الانفعالات تهيمن من هنا فصاعداً على مصالح الطّبقات الاجتماعيّة. فبعد أن كانت مجتمعاتنا تعيش على إيقاع المصالح، أضحت اليوم تعيش ضرباً من الاشتراكيّة الانفعاليّة. ولكن، هل نعتبر هذا الانتقال من المصلحة المشتركة إلى اشتراكيّة الانفعالات هو نتيجة اعتماد الإيكولوجيا أو الإيديولوجيا الإيكولوجيّة على عنصر السّرعة؟
يرى فيريليو أنّه لا تكتمل الإيديولوجيا الإيكولوجيّة على نحو تامّ إلاّ إذا انقلبت إلى إيكولوجيا الزّمن. فالإيكولوجيا الخضراء تعالج التّلوّث، في مجالي الزّرع والضّرع، والمناخ، وفي جميع الأنظمة البيئيّة. أمّا الإيكولوجيا الرّماديّة فينبغي لها أن تعالج تلوّث المسافات، والسّلالم، وأبعاد الطّبيعة، فالأشياء توجد عبر الأحجام. فما تجاوز مترين ونصفاً يقلبنا من بشر إلى شبح أو إلى sycomore إن بلغ العلوّ ثمانية عشر متراً. إلاّ أنّ سرعة النّقل والتّنقّل الفوريّ قد قلّص المسافات فصار العالم كلاشيء. إنّنا نعيش عصراً فريداً. فتقديراتنا للزّمن والمسافات قد انقلبت رأساً على عقب، وأضحت الأرض صغيرة جدّاً على التّطوّر.
وأمام هذه التّحوّلات الجديدة، يرى فيريليو أنّ الإيديولوجيا الإيكولوجيّة تحتاج إلى الفكر الفلسفيّ والارتباط في آن واحد بالفلسفة والعلم وعلوم البيئة، والعلوم الإنسانيّة كذلك. ولذلك وجبت المصالحة بين الفلسفة والعلم، فأعظم لقاء قد أجهض هو لقاء برغسون Bergson بإنشتاين Einstein. فإنشتاين قد تحدّث عن السّريع والفارغ في مجال الفيزياء، في حين أنّ برغسون قد تحدّث عن الحيويّ، والحيّ، وسرعة الحيّ. فإذا كانت الإيكولوجيا تريد أن تكون علماً مفيداً للإنسانيّة والدّيمقراطيّة، والحرّيّة، وجب عليها أن تكون منفتحة على التّقنية – العلم، ومتفتّحة كذلك على الفلسفة – العلم. فقد سجّلت الإيكولوجيا دخولها إلى عالم السّياسة الدّيمقراطيّة، إلاّ أنّها ظلّت تفتقر إلى المنظّرين في ميدان ما بعد الحداثة. فلا يوجد عندها سوى حالات مثبتة ومعاينات ميدانيّة، وهذا في حدّ ذاته لا يكفي. فهي تحتاج إلى فكر فلسفيّ (إيكولوجيّ) لم يعتن به سوى قلّة من الفلاسفة اعتبرهم قرّاؤهم من صنف المفكّرين المتشائمين أو الكارثيّين، فلم يُقرؤوا بالجدّيّة المطلوبة. وهنا يتساءل فيريليو: لم لا نفكّر في استحداث وزارة تعنى بالزّمن وسرعة الزّمن؟ لم لا نشرع في التّأسيس لفكر سياسيّ في السّرعة، ينظّم على غرار علم الموسيقى الإيقاعات لتكوين الأنغام والألحان؟
في هذا المقام يثير فيريليو مسألة الانبثاقات أو الانفجارات البركانيّة، وهي انفجارات من شأنها أن تعيدنا إلى سطح الأرض والواقع وتربطنا من جديد بالزّمن. أليست التّبطئة في السّرعة وضعيّة مثاليّة للتّفكير على نحو أفضل؟ لقد كاد البركان الإزلنديّ أن يقضي على طريقته بالعولمة الّتي نهضت على ثلاثة أنواع من السّرعة هي: سرعة الضّوء الّتي تسمح لنا بالتّزامن synchronisation، وسرعة ما فوق الصّوت supersonique عند الطّائرات، وسرعة القطار السّريع أو المصاعد الّتي من دونها يستحيل تصوّر وجود القلاع العالية وناطحات السّحاب. فهذه الضّروب الثّلاثة من السّرعة مجتمعةً هي شروط قيام العولمة، بل هي من أسباب وجودها الضّروريّة. لقد سجّل البركان إخفاق السّرعة المافوق صوتيّة، وذلك باسم مبدأ الحيطة والتّوقّي. وهو ما فجّر ظاهرة جديدة هي ابتداع صنف جديد من اللاّجئين، هو صنف اللاّجئين من السّوّاح. فهذا الحدث لافت للانتباه في تاريخ الحضارة. فالسّائحون يستعملون الطّائرة، والسّياحة قوّة عملاقة في التّمويل وخلط السّكّان. مع البركان، هوجمت العولمة في واحد من ثالوث سرعتها.
وعموماً، إذا كانت السّرعة هي علّة كوارثنا اليوم وبسببها نعيش في حضارة الهلع أفلا يكون في تقليص السّرعة سبيل إلى تقليص الخوف؟
لا يرى فيريليو هذا الرّأي، فكيف يمكن رفض شيء يقدّم لنا إضافة ملموسة؟ فقبل التّبطئة في السّرعة وجب أن نفهم جليّة الأمر، وهذا يحتاج إلى عمل أكاديميّ من نوع جديد على الصّعيد العالميّ.
_____
*الاتحاد الثقافي