«بان» للانكليزي جو رايت: أسطورة الشباب الدائم تتبدد في فيلم ملتبس


* عماد الدين عبد الرازق


«بيتر بان Peter Pan» واحدة من أمتع القصص التي تلقى قبولا عالميا لدى الأطفال والكبار على السواء. ويندر أن تجد طفلا أو طفلة في الثقافة الغربية لم يتعلق في طفولته بأسطورة «الصبي الذي يأبى أن يكبر»، للكاتب الإسكوتلندي جيمس ماثيو باري، التي عرضت لأول مرة على المسرح عام 1904.
منذ ذلك التاريخ أصبحت جزءا من الريبرتوار المسرحي في بريطانيا فضلا عن العديد من المعالجات السينمائية التي قدمتها هوليوود بينها فيلم «بيتر بان والعودة إلى نيفرلاند» ( 1953 من إنتاج ديزني)، وآخر درامي حافل بالمغامرات و»الأكشن» في 2003، عدا عن مسلسل تلفزيوني وعشرات المعالجات، التي تستعصي على الحصر.
القصة الأصلية تدور حول صبي يتمتع بقدر من شقاوة الأطفال غير المؤذية، ويمتلك قدرة على الطيران بخفة ورشاقة، يقضي حياته لاهيا ومشاغبا في مملكة خيالية تعرف بـ»Neverland» أو «أرض المستحيلات» يصطحب إليها ثلاثة أطفال من عائلة «دارلنغ» «وندي»، «جون» و»مايكل»، حين يهبط عليهم في منزلهم ذات مساء، ويقودهم بمساعدة صديقته الجنًّية «تينكر بل» إلى «مملكة الخيال تلك التي يعيش فيها مع مجموعة من الأطفال يتزعمهم باسم «الصبية المفقودون» وصديقته « تايغر ليلي» الأميرة المحاربة مع أهلها من السكان الأصليين لأمريكا، «الهنود الحمر»، حيث يخوضون حربا ضد عصابة من القراصنة يتزعمها «كابتن هووك». هذه هي الخطوط الرئيسية للقصة التي تداعب خيالات الأطفال وأحلامهم «الفانتازية» سواء بالطيران وخوض المغامرات في مملكة بعيدة هربا من رقابة الأهل وخوض حروب صغيرة مع أعداء متخيليين أو السباحة مع عرائس البحر.
أحلام الفتى الطائر في ملجأ الأيتام
أحدث هذه المعالجات بعنوان ‘ بان Pan’ من إخراج جو رايت وتأليف وبالأحرى «تحريف» وإعداد جاسون فوشس، الذي ارتأى أن يتخلى تماماً عن الخطوط الرئيسة للرواية الأصلية. الفيلم مقدم على أنه الفصل أو الجزء السابق مباشرة لأحداث الرواية الأصلية على غرار سلاسل أفلام هوليوود الشهيرة مثل «حرب النجوم»، فكما رأينا أجزاء متتالية أو متسلسلة «لحرب النجوم» sequels، رأينا ثلاثية سابقة prequels للسلسلة ذاتها. 
وهكذا يبدأ «بان» القصة لا من حيث انتهى «بيتر بان» بل قبل أن يبدأ، من دون أن يقودنا بالضرورة في نهايته إلى حيث بدأ «بيتر بان» ومن دون أن يلتزم لا بثوابتها خاصة الشخصيات الرئيسية الموزعة على منحنى الخير والشر والذي يشكل ركنا أساسيا في المضمون الأخلاقي التربوي للرواية الأصلية. ولهذا اختار المؤلف له اسم «بان» (الطفل «ليفي ميللر») فقط، في إشارة ربما إلى أنه لم يكن قد تم تعميده «بيتر بان» بعد. فهو هنا مجرد طفل عادي مع عشرات الأطفال يضمهم ملجأ أيتام في لندن، نعلم من مشهد افتتاحي قصير أن أمه «ماري» (أماندا سيفريد) تركته رضيعا على باب الملجأ، الذي تديره بصرامة شديدة راهبة متسلطة تدعى «الأم بارناباس» (كاثي بيرك). يقفز الفيلم بنا مباشرة إلى سنوات الحرب العالمية الثانية، فنلتقي «بان» صبيا يافعا، يكتشف فجأة هو وصديقه المقرب «نيبز» (لويس ماكدوغال) أن «الأم بارناباس» تخبئ الأطعمة والمؤن عن أطفال الملجأ في قبو سري لتفوز بها لنفسها، فيما هم يتضورون جوعا ويقتاتون على الفتات، بحجة شح الطعام بسبب نظام تقنين توزيع الحصص الذي اتبع آنذاك في بريطانيا خلال سنوات الحرب. في القبو أيضا يعثر «بان» على رسالة من أمه تخبره فيها أنهما سيلتقيان حتما، إن لم يكن في هذا العالم ففي عالم آخر! يحمل الطفلان كمية كبيرة من الأطعمة المخبأة ويشرعان في توزيعها على أطفال الملجأ لكنهما يضبطان متلبسين بالجرم المشهود. إلى هنا تبدو القصة تقليدية من دون خوض في ممالك الخيال واللامعقول بعد. لكن فجأة تقرر «الأم بارناباس» عقابا للطفلين استدعاء «قراصنة» (من أين لها تلك القدرات على الاستعانة بالقراصنة أو استدعائهم؟ يقومون باختطافهما مع مجموعة أخرى من أطفال الملجأ، لكن «نيبز» يتمكن من الفرار (في حين أن منطق القصة والشخصية يفترض أن «بان» الفتى الاستثنائي هو الأقدر على الفرار) فيما يقتاد « بان» إلى سفينة قراصنة طائرة (بدلا من الصبي الطائر «بيتر بان» لدينا هنا سفن قراصنة طائرة؟ كيف تطير السفن في واقع لندن إبان الحرب العالمية الثانية، وبالمنطق نفسه تطير في مملكة المستحيلات؟) وبعد معركة بين سفن «القراصنة الطائرة» و»قاذفات اللهب»، تصل السفينة وعلى متنها «بان» إلى «ارض المستحيلات- نيفرلاند» وهناك يتحول «بان» ورفاقه من الأطفال والمئات مثلهم من سكان مملكة المستحيلات إلى عبيد لحاكم تلك المملكة القرصان «بلاك بييرد» (هيو جاكمان)، مهمتهم الوحيدة هي التنقيب في ملجأ سحيق عما يعرف باسم «بيكسوم Pixum» وهو غبار سحري يستخدمه «بلاك بييرد» ليظل شابا ويقاوم الشيخوخة، (هي الحلم الذي يراود البشر منذ بدء الخليقة). مرة ثانية نرى القدرة السحرية للبقاء صغيرا أو الشباب الدائم تنتزع من «بان» وتمنح لشخصية شريرة مستحدثة لتصبح قدرة الشباب الدائم، الحلم الذي يراود البشر منذ الأزل، بعد أن انتزعت منه القدرة على الطيران لتمنح لسفن القراصنة، من دون تفسير مقنع من صلب رؤية المؤلف (إن وجدت) في الحالتين. حين يصل «بان» إلى مملكة «نيفرلاند» تنشأ صداقة بينه وبين عبد آخر في منجم الغبار السحري، ليس طفلا مثله، بل رجلا يدعى «جيمس هووك» (غاريت هودلوند)، الذي لم يعد قرصانا ولا شريرا هنا، بل عبدا لزعيم القراصنة وحاكم الجزيرة «بلاك بييرد»، أيضا من دون مبرر درامي واضح أو مقنع. حين يعثر «بان» أثناء التنقيب عن قطعة من ذلك الحجر السحري الذي يقاوم الشيخوخة، تقع مشاجرة بينه وبين أتباع القرصان من الحراس، وعقابا له يحكم عليه بالسير على لوح معدني معلق أعلى المنجم السحيق، وهو عقاب لا ينجو منه أحد فمصيره المؤكد هو السقوط إلى هاوية المنجم. لكن «بان» تكتب له النجاة، حين نراه فجأة يكتسب القدرة على الطيران والتحليق أعلى المنجم. هنا وأمام هذه المعجزة، يكشف الشرير «بلاك بييرد» للصبي «بان» عن نبؤة تلاحقه مفادها أن صبيا لديه القدرة على الطيران سيقتله يوما ما، وهو ما يرفض «بان» تصديقه. المهم أن «بان» ينجح بالتعاون مع صديقه «هووك» وثالث متمرد على حاكم الجزيرة يدعى «سام سميغل» (عديل أختار) في سرقة إحدى سفن «بلاك بييرد» الطائرة ويهربون بها إلى الغابة، إلا انهم يقعون في قبضة سكانها المحليين بزعامة «تشيف غريت ليتل بانثر» الذي يصدر أمرا بإعدامه، إلا أن ابنته «تايغر ليلي» (رووني مارا، التي لمعت مؤخرا في فيلم «كارول»، وقد أجرم المخرج في حقها وحق الشخصية بإسناد الدور إليها؟ فما الذي يستدعي إسناد دور فتاة من سكان أمريكا الأصليين إلى ممثلة أوروبية بيضاء)، تلحظ القلادة التي يعلـــــقها «بان» في رقبته على شكل «فلوت» (أو ناي) وهي القلادة التي رأينا أمه «ماري» تعلقها في رقبته حين تركته رضيعا أمام باب الملجأ. تكشف «تايغر ليلي» أن القلادة تنتمي لبطلهم المنقذ «بان»، وأن أباه الحقيقي هو «أمير الجان» لكن أمه «ماري» أثارت غضب «بلاك بييرد» حين رفضت حبه لها، فاضطرت للتخلي عن طفلها والهرب إلى «مملكة الجان» للاختباء (كيف هربت الأم من لندن الواقعية جدا، إلى «مملكة المستحيلات» الخيالية جدا؟). 
في خضم كل هذه التفاصيل التي يزدحم بها الفيلم الذي أسرف مخرجه في استخدام المؤثرات والحيل التقنية (خاصة توليد الصور رقميا والتي جاءت للأسف فقيرة في الكثير من المشاهد، كما في السفن الطائرة، أو تحليق «بان» الذي بدا ساذجا للغاية كما لو أنه مربوط بحبل خفي من جذعه أو كأنما يتم تحريكه على شاشة كومبيوتر بواسطة «الفأرة»)، يضيع منا «بيتر بان» الحقيقي، الصبي الطائر، المحبب، الجذاب، اللماح، بشقاوته وقبعته وثوبه المميزين، ليحل محله «بان» الضحية منذ البداية. 
طفل رضيع تخلت عنه أمه، ثم صبي في ملجأ أطفال تحت إمرة «راهبة» شريرة تسوم الأطفال العذاب وتجوعهم، ثم عبد كادح لزعيم القراصنة في «مملكة الجان»، ثم مذنب على شفير الموت الذي ينجو منه فجأة باكتشاف قدرته على الطيران، ليهرب بعدها بمساعدة «هووك»، الذي جرد من إهاب القراصنة الذي خلد الشخصية في القصة الأصلية، وصار «أمريكيا» من دون مبرر كل همه أن يهرب من مملكة الجان ليعود إلى منزله (ربما ليشاهد مباراة في البيسبول أو كرة القدم)، ولا معنى ولا مبنى لصداقته لـ»بان» فالأخير هو الذي يسعى لهذه الصداقة في حين أن «هووك» لا يكف عن تأنيبه على سقطاته وزلاته من آن لآخر. ويأبى الفليم أن يطوره إلى شرير القصة الذي عرفناه، مكتفيا بإشارة عابرة للحدث الذي أشعل الحرب بينهما في القصة الأصلية وهو قطع «بيتر بان» ليد «هوك» وإطعامها للتمساح. ومع كل تطور للحدث الرئيسي يبدو دور «بان» أقل تأثيرا من أن يحمل الفليم اسمه، بعد أن كان الشخصية الرئيسية في القصة الأصلية، والمحرك الأول بأفعاله ورغباته للأحداث والمغامرات. 
أما هنا فدوره يصير هامشـــيا وعلى الأكثر ثانويا في العديد من لحظات وأحداث الفيلم المحورية. كل هذه التغييرات والانقلابات غير الدرامية العقيمة أقحمها المؤلف بزعم جعل القصة أكثر عصرية، في حين أن «الثيمة» الأساسية للقصة الأصلية عالمية بطبيعتها تتجاوز الزمان والمكان.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *