من عصر الباروك نتحدث إليكم …



*د . يسري عبد الغني عبد الله


خاص ( ثقافات )
تستخدم كلمة باروك عادة لوصف طراز من العمارة ازدهر في أوربا في القرن السابع عشر ، وأوائل القرن الثامن عشر الميلادي ، ويمكن لعشاق الفن مشاهدة أجمل أشكال هذا الطراز ، وأكثرها أصالة في إيطاليا ، وأسبانيا ، وألمانيا ، والنمسا .
ومع أن كلمة باروك تستخدم في بريطانيا عند التحدث عن عصر معين من تاريخ العمارة ، إلا أنها تستخدم في داخل قارة أوربا استخدامًا أكثر اتساعًا ، فهي تطلق مثلاً على : الأزياء ، وعلى الكلام ، والأدب ، وسائر الفنون الأخرى مثل الرسم ، والنحت ، والأثاث . 
ومصدر اشتقاق الكلمة غير معروف تمامًا ، ويقول بعض مؤرخي الفن : إنه مأخوذ من الكلمة الأسبانية (باروكو) ، ومعناها اللؤلؤة الكبيرة غير المنتظمة الشكل ، وفي بداية الأمر كانت الكلمة تستخدم بطريقة انتقادية وجامدة للدلالة على الكيفية التي تحولت بها العمارة التقليدية النقية في عصر النهضة ، إلى طراز خشن بالغ التعقيد .
واليوم يعرف الباروك بأنه طراز معماري جاد أو ملتزم أو كلاسيك ، وإن كان الشعور يؤكد أن هذا الطراز لا يستحق أن يعامل بجدية كباقي الطرازات الفنية ، غير أنه يجب ألا يغيب عن الأذهان ، أن أحد أهداف فن العمارة هو راحة العين ، فإذا كان استخدام كل أنواع الحليات يضيف إلى جمال المبنى ، فإن المهندس المعماري يكون محقًا في استخدامه .
وفي بريطانيا يطق عادة على الباروك لفظ (آخر عهد النهضة) ، وأعظم اثنين من مهندسي عمارة الباروك هما : السير / كريستوفر رين ، الذي بنى كاتدرائية القديس بطرس ، والسير / جون فانبرا الذي شيد بيوتًا ريفية عظيمة الشأن ، مثل قصر بلنهايم ، وقلعة هاوارد ، وقد استخدم كل من هذين المهندسين الأشكال الأساسية لفن النهضة الإيطالية ، مثل : القباب المزدوجة ، والأعمدة الرومانية ، والأقبية المستديرة ، وأضاف إليها تصميمات من وحيه الخصب .
ويجدر بالقارئ هنا أن يعود إلى إيطاليا لكي يستطيع أن يفهم الجو الذي نشأ فيه طراز الباروك ، كان الإيطاليون في القرن السابع عشر الميلادي ، يرغبون في تناسي مرارة الحروب الدينية البغيضة التي دارت رحاها خلال القرن السادس عشر الميلادي ، وكان الباباوات ، والكرادلة ، من أشد المناصرين للفنون الجميلة ، وكانوا يأملون في تخليد ذكراهم عن طريق تشييد الكنائس ، والقصور والمقابر الباذخة الثمن .
هذا ، وقد كلف الفنانون والمعماريون ببناء كنائس ضخمة فخمة بالغة الروعة ، وقد زينت واجهاتها بزخارف ضخمة بديعة ، وفي الداخل كانت شعلة من الفخامة وازدهار الألوان ، برز فيها بصفة خاصة الذهب والرخام .
أما التماثيل فكانت هي الأخرى آية في روعة النحت والألوان ، وكان من أبرز الفنانين الإيطاليين الذين أبدعوا في طراز الباروك ، في تلك الآونة ، برنيني (1598 م ـ 1690 م) ، و بوروميني (1599 م ـ 1667 م) ، وقد ابتكر كل منهما الكثير والكثير من التصميمات الجديدة الرائعة الجذابة ، والتي أصبحت فيما بعد علامة مميزة لكثير من العمارة الباروكية . 
وكلنا من محبي الفنون يعرفون كنيسة (سانت أجنيس ) في روما ، التي بناها بوروميني ، ومع أنه كان يهدف من هذا المشروع أن يثير الدهشة والإعجاب بالجدة في التصميم ، إلا أن النتيجة كانت في الواقع جميلة ومبهجة ، ولا سيما في تصميم برجي الأجراس .
وإذا دخلت أي كنيسة من كنائس القرن السابع عشر الميلادي في روما ، استحوذ عليك الذهول لروعة الزخرفة ، وأينما نظرت وجدت الرخام بألوانه العديدة ، والبرونز ، والذهب ، والتماثيل ، والزخارف الجصية ، في المشاكي والطنوف ، أما القباب والبواكي فمكسوة بالرسومات الجصية للقديسين والملائكة .
وبرنيني ، فضلاً عن كونه مهندسًا معماريًا معروفًا ، كان من أعظم مثالي عصره ، وأشهر أعماله مجموعة الأعمدة في كاتدرائية القديس بطرس بروما ، ويمكن إدراك عبقريته في العديد من الكنائس ، والمذابح ، والمقابر ، والتماثيل ، والنافورات ، وتمثال الفارس للإمبراطور قسطنطين ، وهو من صنعه ، ويبين لنا كيف كان برنيني يبدع التأثيرات الواقعية بتأكيد الثنيات في رداء الفارس ، وفي معرفة الجواد وذيله .
ويقول لنا تاريخ الفن : إن من بين النعوت التي يوصف بها عصر الباروك ، أنه جرئ ، ومتقن ، وباذخ ، وغير متوقع ، وقد كان التأثير الأسباني شديدًا في إيطاليا خلال القرن السابع عشر الميلادي ، وكان للأسبان ذوقهم الخاص في الاحتفالات التي تتصف بالبذخ ، وفي الخطب الرنانة المنمقة ، والملابس الفضفاضة ، فقد كان ذلك هو الطابع الأكثر غرابة في الروح الباروكية .
كان الناس يتخاطبون ويتراسلون مستخدمين لغة متكلفة وعبارات منمقة ، وكان من الشائع أن يكون للشخص الواحد عدة ألقاب ، وفي الحفلات الفخمة الباذخة كان يصل المدعون في عربات مطعمة بالذهب ، وفي الكراسي المحمولة ، وكانت ملابس السيدات تحلى بالمجوهرات ، والرجال يضعون رياشًا طويلة فوق قبعاتهم ، وياقات من الدانتيلا حول أعناقهم ، وعلى أطراف أكمامهم وأحذيتهم .
وفي مثل تلك الحفلات ، كان الضيوف يرتشفون القهوة والشيكولاته ، وهي مستحدثات تم جلبها من المستعمرات الأسبانية في العالم الجديد (الأمريكتين) ، ويستمعون للشعراء يقرأون ما كتبوه من قصائد ، أو للموسيقيين يعزفون لحنًا جديدًا على آلة الكلافيكورد .
ويظهر الطراز الباروكي كأقوى ما يكون في أعمال العمارة والنحت ، وكان طراز عصر النهضة يميل إلى الالتزام الشديد بالطرازين اليوناني والروماني ، في حين أن الطراز الباروكي قد حول عمارة عصر النهضة إلى طراز أكثر إشعاعًا ، كثير المبالغة في استخدام الزخارف المنحنية والمدرجات والأعمدة الملتوية .
وما زالت المتاحف الأوربية بوجه عام والإيطالية بوجه خاص ، تحتفظ لنا بقطع من الأثاث الجميل الذي تم صنعه في العصر الباروكي ، فنجد سريرًا إيطاليًا ، أو كرسيًا فرنسيًا بمساند ، أو منضدة هولندية ، أو صوان دهن باللاكيه إنجليزي الصنع ، أو دولاب ألماني تم زخرفته بزخارف مبدعة رائعة ، حتى عرش الإمبراطور نيوبو ليتان والذي صنع في هذا العصر يبدو تحفة فنية متفردة ، كما تحتفظ هذه المتاحف بالعديد من الصور التي تظهر الحفلات الباذخة في هذا العصر ، حيث نرى في إحدى هذه اللوحات الضيوف يصلون عند السلم الرئيسي لأحد القصور الإيطالية الفارهة لحضور حفلة مسائية .
حقًا إنه عصر باذخ في كل شيء ، قد نعترض عليه لأن الإسراف الزائد عن الحد لا يتفق مع الفطرة السوية ، ولكن لا يمكن أن نتجاهله كحقبة فنية لم تشمل العمارة فقط بل شملت كل أوجه الحياة المعاشة . 
________
*باحث وخبير في التراث الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *