ثقافة ممانعة الكراهية


*د. عزالدين دياب


من الملاحظ أن التسامح يعيد طرح نفسه باقتدار داخل الحوار الثقافي، باعتباره الحاضر الغائب في الحياة الثقافية التي تخص بعض المجتمعات، التي لم تستطع فيها ثقافة الحوار أن ترتقي بقيمها الكبرى، ومفاهيمها الرئيسية إلى مستوى إنسانية الإنسان، وما ملكت من حقوق وواجبات وحرية، ومواطنة حقيقية، وعدل اجتماعي يحقق السوية بين أبناء المجتمع.
التسامح إذا لم يعش ثقافتَه، ومحورها حقوق الإنسان، فإنه يعيد طرح نفسه كإشكالية، لأنه لم يستوف حقه داخل نسق ثقافة الحوار، بوصفها متضمنة للسلوك الاجتماعي الذي تمارسه الشخصيات الاجتماعية، وهي تعاش ساعة فساعة، وسنة فسنة. وهو ما يبرز أهمية سؤال لماذا يعيد الحوار الثقافي في الحياة العربية الراهنة طرح مفهوم التسامح على اختلاف مضامينه، للنقاش المسؤول بين مكونات البناء الاجتماعي؟ 
تشير الكثير من المعطيات الثقافية التي يلتقطها الباحث الاجتماعي، من الوقائع والأحداث الجارية في بعض الأقطار العربية أن الرقعة الثقافية، وخاصة عناصرها الفكرية، والأخلاقية، والإيمانية، والاعتراف بالآخر، تتضاءل وتنكمش أمام الخصومات، والنوازع العدوانية، والاقتتال الذي يتم بين أبناء الوطن، ومكوناته الاجتماعية. 
وهذه المؤشرات على اختلاف مستوياتها ومواقعها داخل النسق الثقافي لتلك الأقطار ترفع الصوت عالياً بأنها بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في ثقافتها الوطنية العامة، وبخاصة ثقافة التسامح، التي تعيد لمجتمعات هذه الأقطار المحبة المجتمعية، وماله من ثقافة غنية بحقوق الإنسان، والحرية، والعدل الاجتماعي، والمواطنة وما يصاحبها من مبادئ العيش المشترك، وثقافة الاعتراف بالآخر، والعقد الاجتماعي، والمساواة التي تشرع الإرادة الشعبية، وتمتن أدوارها داخل البناء الاجتماعي، وكذا الشأن العام الذي تحيط به العناصر الثقافية، التي تحول دون المساس به لأنه شأن كل الناس. فيه حق القول المسؤول، والتعليم المجاني، والولاءات القائمة على أساس الولاء للوطن بوصفه الدالة على السلم الاجتماعي، والأمن الثقافي والعيش المشترك الخالي من الغش المتبادل، والرشوة، والكراهية، وتضعف فيه الإثرة الشخصية على حساب الشأن العام، وما فيه من منافع متبادلة بين الناس، ومحبة مجتمعية تحيي الإيجابيات، وتمانع الكراهية وثقافتها، وتعلي صوت الحق، والشعور بالمسؤولية.
نقول إن الأوطان التي عرفت بالانقسام والعداوة، وثقافة المغالبة، والولاءات الضيقة التي لا ترتقي إلى مستوى الوطن والمواطنة، لا بد أن تؤسس لسياسات ثقافية كفيلة برد الاعتبار للتسامح وثقافته، وما ملكت الثقافة العربية من غنى بمفردات عن التسامح، وضروراته الاجتماعية المتمثلة بالعدل الاجتماعي، والحرية، وحقوق الإنسان الذي كرمته الديانات السماوية وفي مقدمتها الإسلام، وإزالة كل ما من شأنه أن يعيق حق الإنسان في كرامته الإنسانية، وأن تصحب هذه السياسات بطرح البدائل الممكنة والمستخلصة من الواقع المعيش، بعيداً عن البدائل المتخيلة. 
يوحي الرأي السابق بأن المحبة المجتمعية تشكل الحضن الحنون للتسامح وثقافته. بل إن المحبة الاجتماعية تعد بجدارة واقتدار كلمة السر في بنيان ثقافة التسامح بكل مضامينه الدينية، والفكرية، والأخلاقية..إلخ، غير أن المحبة المجتمعية لا تتكون من فراغ، وإنما من ثقافة التسامح، وما حوت من عناصر ومعطيات، أهمها المواطنة، والعيش المشترك، وحق الإنسان أن يعيش بأمان ورفاهية.
والحق أن ما قيل عن التسامح وثقافته يعيدنا إلى مفهومه ومحدداته داخل بنيان نسق المفاهيم، انطلاقاً من حقائق المفاهيم ووظائفها المنهجية، وحيويتها الفكرية، وجدلها الاجتماعي، وقوة مؤشراتها، وقولها في الوقائع والظواهر البنائية التي يحسب عليها مفهوم التسامح، ويجعلنا ندرك على الفور أنها حالات فكرية تتجسد داخل البناء الاجتماعي، وتتعين داخل أنساقه على نحو وآخر. زد على ذلك أن المفاهيم تشكل قول الناس في همومهم، وتحدياتهم، وتطلعاتهم، وأدواتهم للتفسير الصحيح والسليم لما يمكن أن يستجد من وقائع في البناء الاجتماعي.
والحق أيضاً عندما نقول للمفهوم تاريخه، نقول في اللحظة نفسها إن له واقعه البنائي الذي نأخذه ونستخلصه منه. وفي حالة المفهوم هذه، وخاصة مفهوم التسامح، لا نستدعيه من أنساق ثقافية أخرى، لأن في الاستدعاء ضلالة منهجية قوالة للأخطاء، ووضع المعاني غير السليمة، وغير الصحيحة على الوقائع والظواهر التي يكونها ويحدثها مفهوم التسامح.
ولعمري فإن أولوية مفهوم التسامح، وتناوله بالدرس والتحليل والتفسير في حياتنا العربية المعاصرة، رهن الحالة الاجتماعية التي تعيشها بعض الأقطار العربية التي ابتليت بالصراع والانقسام، وعرفت بالتدخل الأجنبي، من أقوام ينافسونها على الدور الحضاري، الذي كلفت به الأمة من الإسلام.
ولا شك أن في ثقافة التسامح تتعايش المبادئ السامية والحرية، والمحبة المجتمعية لأن الطبيعة الحقيقية للإنسان قائمة على روح التسامح، بل هي مجبولة فيه إلى مستوى الاتحاد في بنيانه. 
ونلاحظ تجليات هذه الوحدة، غداة ثورة المعلومات والاتصال والهندسة الوراثية، وما انبثق وتولد عنها من مواقع للتواصل الاجتماعي، ومحطات فضائية، وأقمار صناعية. نقول بما نراه ونسمعه عن جمعيات ومنظمات إنسانية عابرة للحدود والقارات بما ملكت من إمكانات وخدمات إنسانية، متناغمة مع حقائق إنسانية الإنسان، أينما كان هذا الإنسان، منقادة بشعارات التسامح الخالدة، التي غدت متواجدة في كل ثقافات الشعوب المؤمنة بالخير والعدل والمساواة.
______
*الخليج

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *