رونان ماكدونالد وكتابه المثير ‘موت الناقد’



محمد الحمامصي


يرى رونان ماكدونالد في كتابه “موت الناقد” أن حقبة الخبراء، تلك الفئة العالمة التي كانت آراؤها وأذواقها بمثابة النجم الهادي للجمهور، قد جرى التخلص منها من قبل هذا الجمهور الذي أصبح يدّعي القدرة على تقويم ما يستهلكه على الصعيد الثقافي، ويقول “إن تقلص النقد الأكاديمي وانتشار نقد المراجعات هما عرضان من أعراض معاداة السلطة والمرجعية: إنهما رفض للمؤسسات ذات الطابع التراتبي الهرمي وتشكيك في تلك التراتبية. لقد حلّ الناقد، الذي يشرك الآخرين في انفعالاته الشخصية وحماسته الذاتية، محلّ الناقد المعلم، الحكم الموضوعي، والناقد الخبير، فإذا كان في إمكان كل شخص أن يصبح ناقدا فلا حاجة تقريبا لمتخصصين يكرّسون وقتهم لهذا النوع من العمل”.
ويضيف أن الحركات الحداثية كانت في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تحديدًا تعتمد بشدة على شرّاحها ومفسّريها. فلم يكن ممكنًا بالنسبة إلى الرمزية الفرنسية أن ترتحل إلى إنكلترا وتحدث ثورة في عالم الكتابة دون كتاب آرثر سايمونز “الحركة الرمزية في الأدب” (1899) الذي قال عنه تي. إس. إليوت إنه غيّر مسار حياته. أما زال للنقاد الذين عملوا على تقديم الأعمال الأدبية الحداثية الصعبة التي تنتمي لبدايات القرن العشرين -مثل إدموند ولسون، وريتشارد إلمان، ور. ب. بلاكمور- كثيرٌ من الأثر في المناخ النقدي الحالي؟إن لم يكن لهم بالفعل أثر فهل يمكن أن نعتمد على المدوّنين لكي تتعرّف الجماهير العريضة على صدمة جديدة؟
إن القول بأن الذائقة الثقافية هي مجرّد حيلة نخبوية، وإن كل الآراء متساوية في القيمة، وإنّ علينا أن نأخذ مواقفنا الثقافية في الحياة بالاعتماد فقط على أناس يشبهوننا، قد تبدو واحدة من اللحظات التي صعدت فيها سلطة الجماهير. لكن لو أصغينا فقط إلى من يشاركوننا بالفعل في ميولنا واهتماماتنا ألا يعني هذا أن تلك الديمقراطية المفترضة ستقود بدلا من ذلك إلى نوع من الوهن الخطير في الذائقة كما تهدد وجود حكم القيمة؟”.
ويشير ماكدونالد في كتابه، الذي ترجمه الناقد د. فخري صالح وصدر عن المركز القومي للترجمة بالتعاون مع دار العين، إلى أن الحديث عن موت الناقد يبدو من وجهة نظر البعض سخيفا في الوقت الذي يقوم فيه الجميع بدور النقاد “فهناك جيش جرار من المراجعين الذين يملؤون صفحات الفنون في الصحف اليومية وفي أعداد يوم الأحد بكتاباتهم. كما أن رد الفعل النقدي لم يعد محصورا في الصحافة الورقية، فقد شهدت السنوات الأخيرة انتشارا هائلا لمجموعات القراءة ونوادي الأدب والمدونات على الشبكة العنكبوتية، وتشجع شركة أمازون القراء على كتابة تعليقاتهم حول الكتب على موقعها، كما تخصص حوانيت بيع الكتب رفوفا تحتوي على الكتب التي ينصح موظفوها بقراءتها.كل شخص له رأيه، و”كل رأي مساو في أهميته للرأي الآخر، إن برامج التلفزيون وصفحات الصحف تحتشد بأرقام الهواتف واستطلاعات الرأي التي تطلب رأي القراء وتحثهم على إبداء آرائهم ووجهات نظرهم في الأشياء. إن الإعلام التفاعلي محتشد كذلك بالأشرطة التي تخبرنا بالآراء الحرة الخاصة بالجمهور العادي”.
ويلفت إلى أن “بعض الساخرين قد يهزؤون قائلين إن هذا النوع من ادّعاء سلطة الجمهور هو محاكاة ساخرة متكبرة تتصل بالديمقراطية الفعلية في الوقت الراهن، ومع ذلك فهناك من غير شك شعور بضرورة الوصول إلى جمهور أوسع ولفت انتباه المستهلكين والمواطنين عامة. إذا كان النقد الأكاديمي بما لديه من عدة نظرية واصطلاحية، قد انسحب من الميدان عائدا إلى الجامعة، فإن هناك قوة بديلة تمتلك قوة طرد مركزي قد صنعت منا جميعا نقادا. هنا على الأقل، يبدو أن الوعد بولادة القارئ قد سمح بمفصلة أكثر اتساعا لعملية رد الفعل على الفن”.
ويؤكد ماكدونالد على أن “انتشار المدونات الأدبية غير المسبوق على الشبكة هو مثال ساطع ومعبّر عن تآكل سلطة النقد وأفول زمنه، فمثل هذه المنتديات سهلة المنال، المتخصصة في النقاش والجدل، تمتلك مظاهر مفيدة للغاية، وبسبب التنوع الشديد في طبيعة المدونات، فإن من غير الحكمة أن نقوم بالتعميم وإطلاق الأحكام.
قد نعثر بالطبع على كتابات رديئة وأحكام انطباعية غائمة في المدونات الأدبية، لكننا قد نعثر في الوقت نفسه على نقد عميق متبصر ونضر، لا ينتمي إلى الرؤى السياسية التي تحملها كتابات مجلة شارع غرب. لقد ارتفعت بعض الأصوات المستاءة من عدم مصداقية كتاب المدونات وعدم معرفتنا بأسماء المدونين وغياب المراقبة التحريرية، ما يمكّن هؤلاء المدونين من التشنيع على المؤلفين والإساءة إليهم والافتراء عليهم دون رادع شئنا أم أبينا.
لكن في إمكان كتّاب المدونات الدفاع عن أنفسهم بالقول إن الحجم الهائل لمادة المدونات وتنوعها وشمولها يمكن أن يقلل من أهمية الكتابات المتحيزة التي تستند إلى الآراء الشخصية. كما أن الآثار الإيجابية لغياب أسماء الكتاب من الشبكة العنكبوتية تعني أن عالم المدونات يسعى إلى تجنب المحاباة والرد والرد المضاد، وأسلوب تسجيل النقاط وهو ما تحتشد به في العادة الصحافة والمراجعات الأدبية”.
ويقول ماكدونالد إنه من بين الفنون جميعها قد يكون المسرح هو أكثر مجال يثير فيه الناقد الاشمئزاز والبغض، لربما بسبب السلطة التقليدية التي كان يتمتع بها. وعلى الأرجح فإن الإحباط الذي يسببه الناقد مفهومٌ لأن السجل التاريخي لنقد الدراما ملطخٌ غيرُ نظيف، حيث فشل كثير من النقاد في فهم عمليات التجريب والتجديد في الدراما أو تذوقها. لقد هزأوا في العادة وسخروا من المسرحيات التي اكتسبت فيما بعد نجاحًا وأهمية مستمرة.
ربما تكون ضربة السيف الحادةُ، بل الأقرب، جاءت من جورج برناردشو، وهو نفسه كاتبٌ مسرحيٌّ وناقدٌ وكاتبُ مراجعات نقدية غزيرُ الإنتاج، إذ يقول “إن ناقد المسرح هو من ذلك النوع من الرجال الذين لا يدعون مكانًا لا يمطرونه بالحجارة”.
لا بد أن برناردشو يقول ذلك “وفي ذهنه الناقد الرزين الذي لا يمتلك أيّ قدر من الخيال ويتخذ موقفًا معاديًا من النشاط المسرحي الجديد الخلاق. ومع ذلك وفي الوقت الذي استحق فيه النقاد الجبناء، الممتثلون الذين يخافون الجديد، التوبيخ واللوم، فإن هناك نقادًا قد لعبوا، دون شك، دورًا محوريًا في استيعاب صدمة الجديد في المسرح، ودراسة تلك الصدمة وضخ دم الحياة الأبدية فيها”.
ويضرب مثلا بحالة صمويل بيكيت، وهو كاتب مسرحي وصف النقد الأدبي في إحدى المرات بحيوية لاذعة، قائلا إنه “استئصال للرحم بمجرفة”. إنه يصور الناقد بوصفه أكثر الإهانات التي يمكن توجيهها خطورة في مسرحيته في انتظار غودو.
“فلاديمير: مغفل!
استراغون: حشرة طفيلية!
فلاديمير: إجهاض!
استراغون: حشرة تلدغ!
فلاديمير: جرذ مجارٍ!
استراغون: قسيس!
فلاديمير: معاق عقليًا!
استراغون “بنبرة حاسمة”: ناقد!
فلاديمير: أوه!
“يذوي ثم يختفي خارجًا”.
لربما يكون بيكيت توقّع أن توجه إلى مسرحيته الطليعية ملاحظاتٌ قاسية فجهز رده على الهجوم قبل أن يبدأ. فمسرحية طليعية مثل “في انتظار جودو” ولا بد أن تولد لدى النقاد شعورًا بالنفور والإحباط كما حصل مع جمهور مشاهديها في البداية. لكنها، ويا للمفارقة، امتدحت من قبل النقاد المكروهين، مثل كينث تينان وهارولد هوبسون، بوصفها أهم عمل مسرحي ظهر في القرن العشرين.
وقد ولدت هذه الأحكام التقريظية الصادرة عن النقاد البارزين، الذين تظهر مراجعاتهم في صحافة يوم الأحد، الكثير من الجدل والاختلاف في الرأي، بحيث غطت على الملاحظات القاسية التي ظهرت في صحافة لندن اليومية. كانت شهرة بيكيت نتاج عمل نقاد المسرح، مثله مثل معظم كتّاب الحداثة الذين سبقوه، أي على أيدي النقاد الأكاديميين البارزين، مثل هيو كينر، وروبي كوهين، وهارولد بلوم.
ويخلص ماكدونالد في كتابه الذي ينتمي إلى الجدل الدائر منذ أكثر من نصف قرن عن دور الناقد في فهم العمل الأدبي وإفهامه للقارئ، وعن كون المؤلِّف مبتكراً أم شخصاً يستعير من الثقافة، وعن كون القارئ هو الحكم النهائي على ما يقرأ لأنه هو المتلقّي في النهاية، إلى أنه “قد حان الوقت لنعترف أن النقد صناعة إبداعية وشكل أدبي، وهو الصيغة الوحيدة من صيغ الكتابة الأدبية التي يمكن أن نقول بكل ثقة إن معظم الناس حاولوا ممارستها في يوم من الأيام، لأننا جميعا كتبنا مقالات نقدية أثناء تعليمنا المدرسي. لكنه رغم ذلك قد يكون أكثر الأشكال الأدبية تعرضا للنبذ وتبخيس القدر”.
ويوضح أن “الافتراض الذي يقول إنه نوع ثانوي وتابع لغيره يقلل من قيمته ويضعف تداوله. إنه لا يعامل كشكل إبداعي، لكن من يستطيع أن يبادل واحدة من مقالات هازلت بالمئات من القصائد والمسرحيات الرديئة؟ لقد تم في السنوات الأخيرة الإعلاء من شأن الأنواع الثانوية غير المقدرة فيما مضى، مثل اليوميات والرسائل. لكن مازال ينظر إلى عمل الناقد حتى هذه اللحظة بالطريقة ذاتها التي ينظر فيها إلى عمل الخصي في القصر المليء بالحريم والجواري أو في أحسن الأحوال على أنه عمل عادي لا يحتاج إلى تخصص ويمكن لأيّ شخص أن يقوم به دون بذل الكثير من الجهد”.
ويختم بالقول “لربما لا يكون الناقد قد مات، بل جرت ببساطة تنحيته جانبا، أو أنه يأخذ سِنَةً من النوم، وتتمثل الخطوة الأولى الضرورية لإيقاظه أو إيقاظها، في استعادة فكرة الجدارة الفنية وزرعها في قلب النقد الأكاديمي. إن الحكم هو المعنى الأول من معاني الكلمة اليونانية كريتوس (kritos) وإذا كان النقد راغبا أن يكون مقدرا ذا قيمة، ومهتما كذلك بالوصول إلى جمهرة القراء، فعليه أن يكون تقويميا”.
يذكر أن الكتاب جاء ضمن القائمة القصيرة لجائزة “الشيخ زايد للكتاب” في دورتها العاشرة فرع الترجمة.
_____
*العرب

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *