تعويذات الصحراء: التسامي الموسيقي الزنجي


محمد محسن عامر



خاص ( ثقافات )

فكرة العبور السماوي نحو العالم الأخروي مع فكرة الموت هما معطيان مؤسسان للقلق الإنساني تجاه الهزيمة الحتمية في مواجهة الفناء. فما تقاليد التحنيط المصري والنظام التضحوي في الديانات الإغريقية وأساطير باب القديمة إلاّ أحد تمظهرات هذا القلق. في ترحال الأفكار والحكايات الأسطورية بين الشعوب واصطباغها بعاداتها ولغتها ولدت فكرة الدين وتلونت الأساطير وأنتجت في تمازجها أشكالا جديدا من الوعي الديني التي من أبرز تجلياتها فكرة التصوف الزنجي.

في أقصى صحراء الجنوب التونسي أين يقيم السراب الحد الفاصل بين الواقع والهذيان وبين صفار رمل الصحراء وبياض لمح شط الجريد، يقبع مزار أحد الزعماء الروحيين الكبار للزنوج هو “مرزوق العجمي” الذي تحوم حول ضريحه قداسة غامضة وتقال له كل عام طقوس الرقص المقدس في جو كرنفالي شيق في طبيعتها السحرية إعادة محاكاة لواقعة أسطورية وفي عمقها الثقافي تتويج للتزاوج التاريخي الثقافي بين العناصر الثقافية الإفريقية والتراث الديني الإسلامي.
تقول الأسطورة: أن مرزوق العجمي كان عبدا لأبي على السني أحد معلمي الصوفية الكبار في الجريد (وكلاهما شخصيتان تاريخيتان)، طلب منه معلمه وشيخه إعداد الطعام في يوم ماطر فلم يجد العبد حطبا فأوقد قدميه ووضع عليهما التنور. عندما اكتشف شيخ الطريقة هذه الكرامة أخذه من قميصه ورماه قائلا “شيخ ما يخدم شيخ” فوقع مرزوق العجمي على بعد كيلومترات في قلب الصحراء أين بنى زاويته وأحاط به المريدون من كل مكان إلى أن مات وأصبح ضريحه مزارا لكل الزنوج. 
في الخميس الأول من كل فصل صيف عندما تعجز الأقدام على وطء الأرض من الحرارة تعاد هذه الواقعة من جديد وتبعث شخصياتها وتحيا الحكاية من جديد. ينطلق عازفو الصطمبالي في مشية موسيقية تتبع نفس الطريق الذي أخبرتها بها المروية الأسطورية بطريقة تدفع الأحداث نحو الانبعاث. من ضريح المعلم الأول أبا على السني “الأبيض” في قلب الواحة حتى الوصول هرولة وعزفا إلى مقام الولي الزنجي في قلب الصحراء على ضفة شط الجريد. حتى الكرنفال الأخير الذي يتخلله الرقص والنواح وذبح التيس وتلطيخ المريدين لأنفسهم بدمه وشربه.
موسيقى الصطمبالي الزنجية ذات الطابع الصوفي كان تاريخيا حالة توحد وتمازج ثقافي بين العادات والتقاليد الدينية الوثنية الإفريقية والتعاليم الإسلامية الصوفية. فمع أن العبيد اعتنقوا ديانة أسيادهم إلاّ أنهم حافظوا على هويتهم الثقافية ومخزونهم الروحي كاملا بل أنهم أسلموه أفرقوا إسلامهم وفي كلتا الحالتين تم صب الهوية على المعتقد الجديد فخرج الرقص الإفريقي ذو المنشأ الوثني والمفردات الإفريقية في منطوق الأغاني جزأ من وصلة سحرية دينية مسلمة. إنه حقّا لتمازج شيق بين هويتين، بين تقاليد الرقص الديني وفكرة التسامي الصوفي الإسلامية.
موسيقى الصطمبالي على ما يبدو حافظت على ركائزها والغاية منها مع انه غادرت منشأها في غياهب غابات إفريقيا واسمها الديني الحقيقي. ففكرة التصوف تقوم على أن الحقيقة أكبر من الشريعة والحق أكبر من أن يوصل له بالتعبد الطقوسي العادي، والإيمان الظاهري لا يوصل للجوهر أبدا. بالتالي فالطريق إلى الحقيقة يحتاج الولوج إلى الجوهر، أي إلى الباطن بحثا عن الحلول. هكذا يكون الرقص الإفريقي بإيقاعاته ومفرداته وحكاياته التي يرويها وسيلة الوصول نحو “التخميرة” والتخميرة خروج عن الوعي إلى اللاوعي من المحسوس إلى التجلي الخالص في المطلق.
هذا النوع الموسيقي الذي كان من المفروض أن يكون محل جهد معرفي للباحثين حول تاريخ الشعوب والكم الكبير من المعلومات التي قد تمنحها الدراسات التشريحية للمرويات الزنجية عن تاريخ ثقافة كاملة يطويها النسيان والإهمال وتتراجع لتندثر وتندثر معها حكايات مشوقة عن تاريخ السود وثقافتهم في تونس. إنها حقّا معضلة..

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *