*إبراهيم إسماعيل المصري
الإنسان ميّال بطبعه للبحث عن الحقيقة، والتساؤل عمّا حوله من الأشياء، ودائما ما كانت تشده الظواهر الطبيعيّة نحو التأمّل بمكنونها وسيرورتها، فيحاول أن يجد لها تفسيراً مقنعا، وفي الغالب كان يؤول به تفكيره وتأمله بِحَيْرة تترك جدلاً واسعاً حول تلك الظواهر، ومع ذلك يزداد في تأمّله ويستغرق في تحليله العقليّ لتلك الأشياء من حوله؛ ليمسك طرف خيط يدلّه على حقيقتها وكيفيّة وجودها. ومن المعروف أيضاً أنّ الإنسان يتميّز عن بقية المخلوقات الأخرى بمزايا عديدة، وأهم هذه المزايا أنّه مدنيّ بطبعه ذو فكر عال، فكان أكثر ما يجسّد عقليّته ومدنيّته منطقه اللغويّ، فهو ناطق بلغة فريدة، تفتقد لها جميع الخلائق من دونه، فاللغة وسيلته اليوميّة التي لا يقوى على تركها أو التخلّي عنها، ومن خلالها يتواصل مع أبناء جنسه، إضافة إلى كونها متنفّسه في التعبير عن أفكاره وانفعالاته النفسيّة.
ولما كانت اللغة على هذا القدر من الأهميّة، كانت من بين تلك الأشياء التي تنّبه لها الإنسان منذ زمن موغل في البعد، عندما بزغ فجر المعرفة البشريّة، فجعلها الفلاسفة والعلماء قبلتهم الأولى؛ لأنّها ستكون وسيلتهم في نشر أفكارهم ومعتقداتهم ومآثرهم العلميّة؛ فانكبوا على دراستها، والتفكّر بمنطقها وكنهها بما أتيح لهم من بصيرة نافذة، وملاحظة نافعة. وممّا لا شكّ فيه أن موضوع اللغة كان له رواج عند فلاسفة اليونان الأوّلين، الذين كان لهم سبق في البحث عن ماهيّة اللغة البشريّة وأصلها، إذ أنّهم تصوّروا اللغة من منظور فلسفيّ ومنطقيّ؛ من أجل معرفة هذا المكنون الذي يختزنه العقل البشريّ، والتعرّف على كنه ذلك السرّ الذي لا ينفكّ عن بني البشر، فانبرى الفلاسفة لدراسة اللغة ووصفها، والبحث في دهاليز أسرارها، بغية الوصول إلى التعرف على جوهرها، وكان (ديمقراطيس – فيلسوف يونانيّ مؤسس نظريّة الجزء الذي لا يتجزأ- 370 – 460 ق.م ) في طليعة الفلاسفة الذين تناولوا مفهوم اللغة، فهو يرى أنّ اللغة من قبيل المواضعة بين بني البشر، بمعنى أنّهم اتّفقوا على وضعها، وعند التدقيق في هذا الطرح الذي طرحه ديمقراطيس يتّضح أنّه قاصر بعض الشيء عن تفسير المعنى الحقيقي للغة، فهو يحصره في جوانب ضيّقة، ويجعل اللغة شيئاً من الأشياء التي يبتدعها البشر ويصطلحون عليها، من دون تفسير واضح يدلّ على حقيقة عناصرها، ووظيفتها الأساسيّة التي تؤدّيها، فهذا الكلام أقرب إلى وجوه (أصل اللغة). فاللغة – كما هو معلوم- أهم مظهر من مظاهر السمات الإنسانيّة. وبهذا المعنى لم يتعدّ الإطار الخارجيّ للغة، في كونها نظاماً اجتماعيّاً بين بني البشر.
والمعنى مختلف تماماً عند أفلاطون (-427ـ 347 ق.م)، فهو يعبّر عن اللغة بمصطلح (الكلام)، وقد ورد ذلك أثناء محاورته التي عقدها حول أصل اللغة في كتابه: «محاورة كراتيليوس»، وطرح معنى اللغة على لسان أستاذه سقراط بأنّها نوع من أنواع الأفعال التي تنتمي إلى عالم الطبيعة، والأفعال مأخوذة من (الوجود(، والموجودات لها طبيعة وماهيّة ثابتة.
يختزل أفلاطون معنى اللغة في كونها ظاهرة طبيعيّة، لها طبيعتها الخاصة، ولا شأن للإنسان فيها، بيد أنّ هذا التعريف لا يصف المعنى الدقيق للغة، أكثر ما يخدم القضيّة الفلسفيّة التي يسعى إلى تحقيقها، ومع ذلك ليس هناك أدنى شكّ بأنّ للغة طبيعةً خاصة، ومقابل ذلك فإنّ للمجتمع دوراً فاعلاً في تحقيق النظام اللغويّ، إذ يسهم المجتمع في تكوين نوع اللغة لدى المتكلّم أيضاً، إلا أنّ أفلاطون صرف النظر عن المعنى الدقيق للغة، وحصره في المعنى الوجوديّ لأصل الأشياء، وجاء تفسيره لمعنى اللغة من منظور الفلسفة الوجودية الذي لا يُعنى بحقيقة معنى الشيء، بقدر ما يبحث في أصل الشيء وجوهره الوجوديّ؛ لإبراز قيمته الطبيعيّة الثابتة.
أما أرسطو 322-384) ق.م) الذي تتلمذ على يد أفلاطون، فهو الآخر تعرض للغة ومعناها، إذ أخذ مفهوم اللغة عند أرسطو حدّاً أبعد من حدود من سبقه أو عاصره من فلاسفة اليونان، فتعريفه للغة كان أقرب للواقع أكثر من غيره، فهو يرى أنّ اللغة التي ينطق بها الإنسان ما هي إلا دلائل تشير إلى ما يعتمل بداخله من عواطف وأفكار وانفعالات نفسيّة، وهذه هي المولّدات الداخليّة للغة – إن صحّ التعبير – وهي نتاج داخليّ أيضاً، كذلك هي تمثيل للمقدرة العقليّة لدى الإنسان. فألفاظ اللغة عند أرسطو ليست متماثلة عند جميع أبناء الجنس البشريّ، وإنّما يعتريها الاختلاف، وقصده في ذلك أصوات الكلام واختلافها بين لغة وأخرى من لغات الأمم. أما المعاني المكنونة في النفس فهي الانفعالات والعواطف والأفكار، وهي واحدة عند جميع البشر ومتماثلة تماثلاً لا اختلاف فيه.
ويمكن القول إنّ مفهوم اللغة عند فلاسفة اليونان حمل أفكاراً مختلفة ومتباينة، حول الفهم العام لمعنى اللغة، ولم يكن البحث في اللغة بحثاً مستقلاً عن المذهب الفلسفيّ، بل كان من أجل الوصول إلى ترسيخ ما تهدف إليه مذاهبهم الفلسفيّة في كثير من الأحيان. فاللغة أهم وسيلة في إيصال الأفكار للآخرين، فكان أجدر بهم الاهتمام باللغة ودراستها من قريب أو بعيد؛ لتحقيق الغاية المرجوّة، وهذا لا يعني إنكار تلك الجهود القيّمة أو التقليل من أهميّتها في ميدان البحث اللغويّ، على العكس تماما،ً فقد حملت تلك الجهود بدايات البحث اللغويّ، وأخرجته من صمته المطبق. إلأ أنّ الوقوف عند تلك الأفكار والركون إليها من دون النظر في ما تلاها من بحوث ودراسات، سيكون الإطار اللغويّ أفقر معها من حيث المحتوى. فهذه المراحل تلتها مراحل أرست المفاهيم على حقيقة معناها، وكانت من الطلائع المميّزة في البحث اللغويّ، بالنظر في جهود السابقين والانطلاق منها. وما يمكن استنتاجه أنّ المفهوم العام لمعنى اللغة لا يستدل عليه اعتباطاً، إنما يحتاج إلى جهد متواصل، وإلى فترة طويلة من البحث المعمّق، لذا فإنّ معنى اللغة كان يبرز في كلّ مرّة أفضل من سابقتها، ويحمل دلالات واضحة وعميقة.
أمّا قضيّة اللغة في التراث العربيّ، فقد كانت أكثر المحطّات وقوفاً في تاريخهم الفكريّ واللغويّ، فاستوقفت أذهان العلماء، واستقطبت جهودهم، فأذكت قرائحهم، وانعطفت أعناقهم نحوها، فتناولوها منذ قرون واشتغلوا بها، وكانت قضية عصرهم الشاغلة، فتسابق كثير من العلماء للتفكّر في جوهرها وحقيقتها، وإدراك ماهيتها . فكان أبرز وأهمّ تعريف للغة في التراث العربيّ ما أورده علامة عصره ابن جنيّ (392 هـ) في كتابه «الخصائص»؛ ليعدّ من التعريفات الشاملة والمتكاملة، عندما عبر فيه أن (اللغة أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم). إنّ طرح ابن جني لهذا المعنى يعدّ إنجازاً كبيراً لعلم اللغة في التراث العربيّ، وقفزة واثبة نحو التقدّم الفكريّ اللغويّ، حيث إنّه عمد إلى حصر هذا المعنى حصراً موجزاً ومدللاً، وقدّم وصفاً دقيقاً لمعنى اللغة من غير انتقاص لجوهره. وإنّ أهم ما يميز هذا التعريف أن ابن جنيّ جعل مفهوم اللغة أصواتا، ولم يجعلها ألفاظاً أو حروفاً كما عُهد عند غيره ممّن تناولوا تعريف اللغة، ولم يجعل هذه الأصوات على إطلاقها، إنّما قصرها على الكلام الذي يصدره بنو البشر؛ لأنّ الأقوام الجماعات الإنسيّة، فكلمة الأصوات وحدها من غير رابط يرتبط بها تنطبق على البشر وغيرهم من المخلوقات، فكان توظيفه لها توظيفاً دقيقاً ومناسباً، وزاد دقتها أيضاً أنّ (الأصوات) أعمّ وأشمل بمعناها الواسع من (ألفاظ، أو كلمات، أو معان). وهو يرى أنّ اللغة نظام اجتماعيّ، فمن خلالها يتواصل البشر على اختلاف لغاتهم وألسنتهم، فهذا النظام لا بدّ أن يتوفّر للغة؛ لأنّه يساعد في بقائها وديمومتها، وهو لم يصرف النظر عن وظيفة اللغة الأساسيّة التي تؤدّيها، وهي (التعبير) إذ يحمل هذا المصطلح دلالات كثيرة، أهمّها التعبير عمّا يجول في الفكر، ويعتمل في الصدر من عواطف وأحاسيس، فبوساطة اللغة يستطيع البشر نقل أفكارهم، والإفصاح عن انفعالاتهم والتعبير عن أغراضهم التي يحتاجونها. فهذا التعريف ترك للباحثين إرثاً لغويّاً يهتدون به، ويقتفون أثره كلما عنّت لهم فرص البحث، ومنه ينطلقون.
فالنسق العام الذي حواه تعريف ابن جنيّ للغة، لم يسبقه إليه أحد من العلماء والفلاسفة الذين تناولوا قضيّة اللغة، إذ يتضح أنّ ابن جني في تعريفه للغة قد انطلق من خلال فهم عميق للغة، ولم ينطلق من مفاهيم أخرى قد يكون لها جذورها الفلسفيّة أو المنطقيّة، وهذا لا يعني أن أبا الفتح لم تكن له ارتباطات فلسفيّة أو منطقيّة، لكنّ تفسيره للغة حمل دلالات واضحة وشفافة تركت عظيم الأثر في نفوس علماء اللغة من بعده، ترتّب عليها أنّ كثيراً من علماء العربية القدامى اتخذوا هذا التعريف كمعنى مسلّم به؛ لدقّته وشموليّته، حيث تناقلته كتبهم وحوته بين دفتيها من غير نقص أو اقتطاع، ناهيك عن توظيف المحدثين له في كتبهم، فقلّما تجد كتاباً يتطرّق إلى معنى اللغة، ولم يرد في ثناياه ذلك التعريف، لأهميّته المميزة في الحقل اللغويّ.
وبعد هذا العرض الذي سقناه لتعريف اللغة عند بعض فلاسفة اليونان وابن جني، فإنّه يمكن لنا أن نصوغ تصوراً شاملاً لمعنى اللغة، بناءً على تلك التعريفات التي تتلاقى في نهاية الأمر عند نقطة تبيان وإيضاح مفهوم اللغة التي تعدّ هُوية الإنسانية على هذه الأرض، والوسيلة الناجحة التي ترقى بالبشر نحو الرقيّ. فاللغة وفقا لذلك: هي نظام يتكوّن من الرموز المنطوقة صوتاً، ينطق بها الإنسان؛ للتعبير عن الفكر والإفصاح عن المشاعر والانفعالات النفسيّة، ويتواصل من خلالها مع الآخرين كظاهرة اجتماعيّة مرتبطة بعمليّة فكريّة. وهي جزء من الكيان النفسيّ للإنسان، وطبيعة واحدة في البشر مختلفة بين أمّة وأخرى في نظامها الصوتيّ.
________
*القدس العربي