*علي العامري
لم تكن «قاعة إفريقيا» في الشارقة مجرد مبنى بجدران ونوافذ وعتبة ودرج، بل كانت شاهدة على ولادة مشروع ثقافي لايزال يتطور بخطى واثقة، نحو آفاق جديدة. كانت القاعة التي أنشئت عام 1976 المسرح الوحيد والفضاء الواحد في مدينة الشارقة، والحضن الأول لكثير من المبدعين، إنها ذاكرة ثقافية مضيئة، لم يكن من المتوقع أن تنهشها الجرافات والمعاول الآلية الضخمة لتغدو «ركاماً»، ولم نكن نتوقع أن يأتي يوم نمر من عند تلك القاعة، لنرى دمعتها على حجر في الركام.
هل رأى أحد منا قاعة تبكي؟ هل رأينا مرة دمعة الذاكرة؟
الآن يمكن لنا أن نرى ذلك، ونحاول أن نلملم حزننا على قاعة القاعات، وذاكرة الروح الثقافية.
مررت قبل شهر، بالقرب من الدوار الذي كانت تطل عليه، ولم أكن أتوقع أن أرى «جثمان» القاعة ملقى بين الأشجار التي تدمع أيضاً من هول الفقد. ووددت أن أسأل الشجر القديم عن الخطى القديمة، وتمنيت لو أن المشهد مجرد «وهم» لا أكثر، وتساءلت عن مبرر هدم ذاكرة المدينة، مع أن لدى الشارقة مشروع ترميم للأماكن التاريخية، وتعي أن «قاعة إفريقيا» نواة الثقافة وذاكرتها، والشاهد الحجري على السجل الأول، وهي حارسة الثقافة الأولى لنحو أربعين عاماً، على الرغم من الخفوت التدريجي لدورها، بعدما كانت في السنوات العشر الأولى من عمرها جوهرة مشعشعة، فكانت شاهدة على خطى وقصائد الشعراء العرب محمود درويش ونزار قباني وأدونيس وعبدالوهاب البياتي وعبدالرحمن الأبنودي ومحمد مهدي الجواهري وعلي عبدالله خليفة وسعاد الصباح، ومن الإمارات الشعراء راشد بن طناف وربيع بن ياقوت وحبيب الصايغ وأحمد راشد ثاني، كما كانت شاهدة على حضور الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والمفكر أحمد ديدات والروائي الطيب صالح والمسرحي سعد أردش والباحث الدكتور يوسف عيدابي والروائي والناقد نبيل سليمان، وغيرهم.
كانت «قاعة إفريقيا» حاضنة الحلم الثقافي، إذ انطلق فيها معرض الشارقة الدولي للكتاب، و«أيام الشارقة المسرحية»، واحتضنت مكتبة الشارقة التي تأسست عام 1925، وكانت بيت المثقفين، وفضاء المبدعين، ولؤلؤة الحالمين، وكان المسرحي محمد عبدالله، قال عن دور القاعة الثقافي إن كثيراً من المبدعين يعتبرون قاعة إفريقيا المكان الحقيقي لولادتهم الإبداعية.
يطول الحديث عن سيرة ذاكرة القاعة التي تحمل اسم قارة، ولكنها آلت إلى «الهدم»، مع أنه كان بالإمكان إنقاذها وترميمها لتغدو متحفاً لبدايات المشروع الثقافي، يتضمن سجلاً لأسماء الأدباء والفنانين والمفكرين الذين تختزن القاعة صورهم وأصواتهم وظلال قاماتهم.
ولكن كيف جرى هدم القاعة، ولماذا؟ وهل يمكن أن يحدث هدم الذاكرة «سهواً»؟! مع أن ترميم المواقع والمباني التاريخية جزء أساسي في رؤية المدينة، وكانت مؤسسة الشارقة للفنون أنقذت مبنى «الطبق الطائر» من فم المحو. كما لا ننسى دور معهد الشارقة للتراث وهيئة «شروق» في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من معمار الذاكرة.
_______
*الإمارات اليوم