هل التاريخ صناعة نيسان؟


*مي فاروق


ساعات ويرحل ذلك الدخيل القديم الممنوع لأعجميته من التمكين، رغم أن أوله مفتوح إلا أنه شاع كسره، ورغم أنه لا يأتي إلا مع زهور البيلسان، ومعقود بانعقاد اللوز والتفاح غير أنه ارتبط برابطة قوية بالخداع والأكاذيب، إنه نَيسان الواقع بين آذار وأيار إنه (شهر أبريل).

ذلك الشهر الذي يجمع بين الكثير من المفارقات وأحياناً المغالطات، أطل علينا من كتب الشعر بطبيعته الساحرة المتبرجة في الزهر والنهر والأفق المشرق والروض البهيج، فكان خيالاً ضاحكاً من الحسن حتى كاد أن يتكلما، رغم أنه غيب بالموت الكثير ممن تغنوا به، فكانوا مجرد أزهار ذبلت وماتت في نيسان.
صلاح جاهين الذي كانت الحياة عنده لونها بمبي، ونزار قباني عاشق الياسمين، والذي طالما تغنى به، والأديب والرسام وشيخ الروائيين عبدالسلام العجيلي، وذلك العصفور الأحدب الذي طار خارج السرب الشاعر والأديب محمد الماغوط، وأيضاً ذلك الفلاح الماكر والبسيط والمثقف الشاعر عبدالرحمن الأبنودي.
كلهم كانوا زهور نيسان بكتاباتهم عن الجمال والطبيعة، لكنهم بالنهاية لم يكونوا سوى حطب له عندما حصدهم وغيبهم بالموت، فلماذا لم يترفق بهم؟
سؤال أطرحه من باب الحيرة وليس من باب القنوط، لكنه يؤكد أن بالحياة مفارقات عجيبة وأحداث أغرب، ولا أغرب مما نعيشه اليوم بل وما طرحه نيسان نفسه هذا العام من أحداث صادمة تؤكد طبيعته الخادعة أو لربما طبيعة الحياة الآن حولنا والتي تبدو وكأنها من أكاذيب أبريل صنعة فرنسا من منذ أكثر من أربعمائة عام لتربط نيسان بعلاقه قوية بالكذب والتضليل وطمس الحقائق.
وإذا استعرضنا أحداث أبريل هذا العام سنصاب بالكثير من الدهشة والحيرة وسنشتم منها رائحة فجة ونسمع منها صخبا شديدا نكاد نتقيأ أصواتها من آذاننا.
سيناريوهاته الدرامية والتي بدأت مبكرا كاستهلال للشهر بحادث كوميدي وهو اختطاف الطائرة المصرية وهبوطها إلى مطار لارنكا القبرصي، بأسباب غير معروفة وأحداث غير منطقية ونهاية غامضة مفتوحة ومتروكة لخيال المتفرج، والطريف أنها فتحت باب السخرية ولم تفتح باب التساؤل أو المحاسبة.
لينتهي الحدث بعبارة (يا ريتني كنت معاهم). فهل أصبحت أحداث الواقع نوعا من المقالب الساخرة؟
ينتهي هذا المقلب، ليبدأ مقلب آخر ولكنه من العيار الثقيل ليفاجئنا بحقائق كثيرة لم نكن نعرفها لولا التسريبات أو ما يسمى بتسريبات بنما والتي كشفت المستور فانكشف معها كل شيء وبان.
1105 ملايين وثيقة ترجع إلى ما يقرب من 40 عاما متضمنة معلومات لأكثر من 200 دولة، متورط فيها أكثر من 140 شخصية سياسية وعالمية شهيرة بأعمال غير قانونية كالتهرب الضريبي وغسيل أموال وغيرها، ومما يثير الدهشة في وثائق بنما غياب الولايات المتحدة عن المتورطين فيها بل غابت عن التغطية وعدم إيفاء الحدث الاهتمام المناسب مما يجعلها تشبه تسريبات ويكيليكس 2010 التي افتعلتها الإدارة الأميركية لتقليص جرائمها في العراق وأفغانستان وخلق توتر بين الدول العربية وإيران.
فهل تحاول هذه التسريبات إعادة تشكيل العقل العالمي بوضع محاكم عالمية تضع الجميع في قفص الاتهام، أم أنها إحدى رسائل التهديد الأميركية للعالم لتقول إنها مازالت تقود العالم؟
المؤكد أننا دخلنا مرحلة جديدة في صناعة التاريخ معتمدة على حرب الوثائق المتسربة والأدلة التي لا دليل مؤكد على صحتها.
وما يؤكد ذلك أمر آخر فاجأنا به أبريل ليصبح حدثا نيسانيًا حقيقيا وهو قضية جزيرتي “تيران وصنافير” والذي فرض جدلا واسعا مقرونا بوثائق و أدلة على صحة الأمرين معا وهو ما يثير الحيرة.
ولن أخوض في أحقية أي طرف فيهما سواء ملكية السعودية لهما أو مصر، وسأبعد عن بؤرة الخلاف وجدليته وسواء أكان تنازلا أم إعادة حق فالأمر ينحو إلى أعمق من هذا وذاك.
أمر صار متعلقا بطريقة كتابة التاريخ وسقوطه برمته ما بين الوعي والسلطة، ليكون ضحية لبراثن التشفير ووجهات النظر، وأنه أصبح بعيدا عن كونه ممارسة ثقافية واعية وأنه صار وجبة على مائدة اللئام.
فكيف سيكتب التاريخ الآن بل كيف سنقرأه؟ في ظل التشويش الادراكي والتوهم والتخيل والأكاذيب التي يصنعها الغرب لمقاصده الخاصة، وفي ظل المجازر الثقافية والاعتداء على الزمن والآثار والمتاحف والتي تهدف لإخفاء الحقائق، وفي ظل النعرة السياسية والخطابية.
كلها أمور تجعلنا خارج التاريخ نلعب دور المتفرج الصامت وتحوله لصنعة كاذبة ننتظرها مع نيسان.
________
*ميدل إيست أونلاين

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *