ابراهيم صموئيل
في كتاب “اختلال العالم” للروائي والمؤرخ أمين معلوف (الصادر عن دار الفارابي/2009) ما يستوجب قراءته على مدار زمن طويل منذ صدوره، لأنه يتحدث عما حصل ويمكن أن يحصل في عالمنا من “أحداث مقلقة تحمل على الظن بأن العالم يعاني اختلالا كبيرا -وفي عدة ميادين معا- اختلالا فكريا، واختلالا ماليا، واختلالا مناخيا، واختلالا جيوسياسيا، واختلالا أخلاقيا” كما يقول المؤلف في مقدمته.
للوهلة الأولى قد يبدو موضوع الكتاب لمن يقوم بتصفحه على عجل من تلك الكتب التاريخية الفكرية المملة أو ثقيلة المادة، غير أن مجرد الشروع بقراءة بضع فقرات -ولو من مقدمته- سيغري المتصفح بقراءته، وتجذبه القراءة إلى متابعة فصوله، ثم تصطحبه الفصول حتى نهاية الكتاب، وقد تحصلت لديه المتعة والفائدة في أرفع مقام لهما.
المتعة، لأن المؤلف -كما هو شأنه في كتبه السابقة كـ”الهويات القاتلة” مثلا- حرص على التبسط المقصود في عرض الوقائع والمفاصل التاريخية والراهنة من جهة، وعلى التبصر العميق في تأثيراتها وتداعياتها التي أدت وتؤدي إلى اختلال أحوال عالمنا على النحو الذي نعيشه داخل بلداننا، ونعاينه داخل بلدان وقارات العالم من جهة أخرى.
فلغة الكتاب شديدة القرب من القراء عامة من دون تعال ولا مصطلحات عويصة ولا “فذلكة” لحظناها في غير كتاب تناول موضوعات مشابهة، كما عمل المؤلف ما أمكنه على تكثيف فصول كتابه، والاكتفاء بما يضيء موضوعه ويدلل عليه بحيث لم يتجاوز الفصل الواحد بضع صفحات. وإلى هذا، سيوفر الكاتب للقارئ وقفات تأملية يستمدها من نسيج الوقائع وتداعياتها.
وهو في العديد من الآراء، أو الخلاصات، أو الاستنتاجات التي يقدمها لا يتردد في التأكيد لقارئه أن ذلك مجرد وجهة نظر أو قراءة يراها، وأنه لا يملك الحقيقة، ولهذا تكثر أفعال التحفظ: أظن، وأحسب، وأميل إلى الاعتقاد، وأرى من جهتي.. إلخ، ليس من باب التواضع الزائف بل شأنه في ذلك شأن الكبار المثقلين بمعارفهم وثقافتهم، والمؤمنين بحق الرأي الآخر على قدم المساواة مع حقوقهم في الرؤية والاستنتاج.
أما عن الفائدة فالكتاب رحلة مع مفكر حر غير منتم أو منحاز إلى أي حزب أو تنظيم أو جماعة أو أيديولوجية أو تيار، مفكر معني بمصائر الشعوب وبالانتصار لحقها في الحياة، مفكر صاحب عقل منفتح، متفهم، متقص لما جرى في أقدم العهود والعصور، ولما هو جار وقائم في عصرنا الراهن، ومدقق فيما أصاب عالمنا من اختلال يهدد السفينة كلها والمبحرين على متنها جميعهم.
وأحسب أن القراء لن يجدوا أي صعوبة في مواكبة وفهم التحولات الكبرى التي أوردها الكتاب، سواء في الغرب أو في الشرق، في شمال العالم كما في جنوبه، تلك التي تتالت وتشابكت وتنافرت على نحو أوصلت كرتنا الأرضية وشعوبها المتنوعة إثنيا ودينيا وثقافيا وحضاريا إلى اختلالات وعداوات خطيرة باتت تهدد المعمورة وسكانها أجمعين.
صنعة السرد
إن كفاءة الصنعة السردية لدى كاتبنا الكبير -والتي تجلت في أعماله الروائية مثل”سمرقند” و”ليون الأفريقي” و”صخرة طانيوس”، وفي أعماله التاريخية الفكرية مثل “الهويات القاتلة” و”اختلال العالم”- لا نجد نظيرا لها إلا عند الكتاب الكبار في العالم ممن منحتهم الحياة فيضا من الموهبة الأصيلة، والبصيرة العميقة، والفطنة البارعة التي تهيئهم ليكونوا صناع غذاء العقل ونوره، وبهجة القلب وروائه.
وإلى هذا فقد شاءت ظروف كاتبنا أن يكون “مخضرما” ينتمي بوفاء وتوازن إلى أصوله العربية وحضارتها، ويعتز بانتمائه -أيضا- إلى حضارة الغرب وتطوره، وبذا تنهل بصيرته من مزيج ما عاشه وخبره عربيا قبل هجرته، وما عاينه واطلع عليه وخبره غربيا خلال إقامته الطويلة، إنه سفير لحضارتين معا: العربية لدى الغرب، والغربية في شرقنا العربي.
عن عمد تجنبت إيجاز وعرض موضوعات الكتاب ومحتوى فصوله، وآراء كاتبه، وغير ذلك من تفاصيل ليقين خاص لدي مفاده بأن التلخيص أو حتى العرض الموجز لأي عمل مقروء أو مرئي من شأنه إفساد جهد وعناية صاحبه في ترتيب وقائعه، وتسلسل فصوله، أو في تقديم ما حرص على تأجيله، أو تأجيل ما عمل على تقديمه.. وسوى ذلك من العمل المقروء أو المشاهَد.
وبالتأكيد، فإن كتاب أمين معلوف يُقرأ فحسب، يقرأ ليتحقق الاستمتاع وفقا لما أراد الكاتب وعبر عن مسعاه بالقول إنه أقرب إلى “مسعى ناطور ليلي لبستان غداة مرور عاصفة، وفيما تنذر بالهبوب عاصفة أخرى أشد عنفا يجول الرجل بقدمين حذرتين حاملا مصباحه، ناقلا ضوءه من مكان إلى آخر، مستكشفا الممرات، منحنيا فوق شجرة عتيقة اقتلعتها العاصفة، ثم يتوجه إلى مرتفع، ويطفئ مصباحه، ويحاول إلقاء نظرة شاملة على المشهد بكامله”.
—-
الجزيرة نت