إسراء النمر*
يبدو أن رشيد غمري سيظل يفاجئنا من حين لآخر بإبداع مغاير تماماً. هذه المرة لا يقدم نفسه كشاعر أو روائي أو فنان تشكيلي، بل كمصور، فقد ظل خلال عقد ونصف يتردد على ثلاث واحات هي الخارجة، والداخلة، والفرافرة، التي تقع إدارياً في محافظة الوادي الجديد، ليخرج لنا بعمل مفعم بروح الصحراء، وبروحه، إذ أراد أن ينتقي بعين كاميرته قليلا من “سحر الواحات”، وهو اسم كتابه الصادر مؤخراً عن الهيئة العامة للكتاب.
يقول رشيد غمري في مدخل كتابه: “الواحات المصرية حالة سحر، لا نكاد نفك طلاسمها حتى تبهرنا من جديد. هي في الجغرافيا بقع خضراء منخفضة وسط صحراء مصر الغربية الشاسعة. وفي التاريخ ممالك ومحطات على طرق تجارية مهمة وصلت إلي المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء. وفي الجيولوجيا شواهد أخيرة على عصور مطيرة وغابات وبحيرات وجداول، كانت بمثابة جنة الإنسان البدائي قبل الحضارة. وفي الفنون تراث معماري طيني كفل له جفاف الصحراء عمراُ يمتد لمئات السنين. وفي الإبداع حالة من الولع الإنساني بالحياة.”
حالة من الثراء، أحاطت به، وأدهشته طيلة هذه السنوات، فلكل واحة عالمها الفريد وروحها التي صنعها تنوع الطبيعة، وأكدتها عزلة الصحراء، لذلك لم يكن سهلاً أن يكشف من خلال الصور، سحر الواحات، ولغز بقائها، دون أن يتعرف على مفاتيح النشأة والوجود؛ قبل نحو عشرة آلاف عام فقط كانت المنطقة تودع عصرها المطير الثاني، أو البلايستوسيني، والذي كان قد بدأ قبل 120 ألف عام. وقبل الجفاف والتصحر الذي طرأ علي ما يعرف بالصحراء الغربية، كانت هناك بحيرات شاسعة، استقر حولها الإنسان في مناطق الواحات الداخلة والخارجة وبير طرفاوي ـــ جنوب الداخل ــ والعوينات، وقد عثر علي أدوات حجرية في عدة أماكن هناك لإنسان ما قبل التاريخ، والذي هو غالباً أصل سكان وادي النيل فيما بعد.
لم يزعم رشيد غمري أنه يقدم عملاً توثيقياً، إنما قدر من المتعة البصرية، من خلال صور للطبيعة في الواحات، وهي طبيعة يتداخل فيها الأخضر مع الأصفر، ما بين كثبان رملية وجبال ومساحات خضراء حول الآبار، هذه الطبيعة النقية تغري الكثيرين للاستجمام وسط حالة من الصفاء النادر، كذلك الاستمتاع بمياه الآبار الطبيعية الساخنة المنتشرة في المنطقة. كما عرض عدداً من الآثار الفرعونية والرومانية والإسلامية، مثل مقابر البجوات بالخارجة، وقرية القصر الإسلامية بالداخلة، وكلاهما من العمارة الطينية وكلاهما صمد طويلاً. الأولي مدينة للموتى كولع قديم للمصريين بحياة الخلود، وتضم تكوينات معمارية بديعة ونقوشاً داخلية في الكنيسة الملحقة وغيرها. والثانية مدينة للأحياء من العصر العثماني وحتى الآن، وهي أيضاً حافلة بالفن في تصميمها ونقوش عتبات بيوتها.
لذلك جاء القسم الأول من الصور بعنوان الطبيعة والتاريخ. والقسم الثاني بعنوان المكان والإنسان. والقسم الثالث بعنوان التراث العمراني، والذي تضمن إلي جانب قرية القصر بعضاً من أبنية حسن فتحي في واحة باريس، قال عنها رشيد غمري “إنها أحد تجليات الإبداع المستوحى من التراث المصري، يعتمد على القباب
والأقبية، ويتناغم البناء الطيني مع البيئة، كذلك يناسب المناطق نادرة المطر كالواحات، منذ الستينيات تم إنشاء عدد من الأبنية بهذا الطراز في الواحات الداخلة، كذلك تم إنشاء مركز حسن فتحي في واحة باريس، لكن للأسف ظلت الأبنية مهملة لأكثر من أربعين سنة، ويراعي البناء نظاماً للتهوية الطبيعية لتجديد الهواء وخفض درجة الحرارة، وكل المعمار في الواحات طيني من مواد الطبيعة، والقري القديمة مسقوفة للحماية من حرارة الشمس، وهو ما يصنع لوحات من كهوف وسراديب يصنع النور لمساته عليها بأشكال مختلفة”.
أما القسم الرابع، فقد خصصه للحرف التقليدية التي إن كانت تمثل اليوم تراثاُ وقيماً جمالية، فإنها في الماضي كانت وسيلة لصنع الحياة نفسها، فالفخار والنسيج اليدوي والحدادة والثوب وأواني السعف وغيرها، كانت من ضرورات الحياة، قبل أن يزحف التمدن منذ الستينيات.
ويختم رشيد غمري رحلته المصورة إلي الواحات بإطلالة علي بعض من الفن التلقائي في القسم الخامس والأخير، وهي إبداعات فطرية تحمل روح المكان، وتتنوع بين نحت ورسم بخامات الطبيعة.
* أخبار الأدب.