سحر الخفاء


*إبراهيم صموئيل

حين نشرع بقراءة رواية أو حضور مسرحية، أو مشاهدة فيلم سينمائي، أو حتى متابعة عروض “ألعاب الخفّة”، نكون قد تواطأنا، على نحو مضمر، مع الكاتب أو المخرج أو العارض على قيامهم “بخداعنا” من جهة، وعلى قيامنا “بتصديقهم” من جهة أخرى، كي يتحقق لهم ما أرادوه من فنونهم، ويتحقق لنا ما سعينا إليه: نيل المتعة.

فالفن، في العموم، لعبة. خدعة لذيذة، ممتعة، يحلو لمشاهد عروضها أن يبقى على “جهلٍ” بآليات وأساليب مجرياتها وتركيباتها، ويطيب للقارئ أن يصدّق حدوثها، وينجذب إلى وقائعها، متلهفا إلى بلوغ ذرى نهاياتها، أو هاويات خواتيمها.
البرزخ الممتد بين “التجاهل” على المستوى النفسي و”المعرفة” على المستوى العقلي هو مسكن المتلقي للأعمال الفنية والأدبية ومأواه، وفي تغييب هذا البرزخ تفسد العلاقة بين المبدع والمتلقي ويبطل أثر لعبة الفن.
لا بد لنا أن “نجهل” كيفية اشتعال الأصابع بالنار من دون أن تحترق، وكيف تُؤخذ محفظة مشاهد من دون أن يشعر، وكيف تقطع امرأة بالسيف ولا تتأذى، لأن هذا “الجهل” هو ما يثير استغرابنا ودهشتنا , ويحقق متعتنا في آن.
الأمر نفسه في عالم السينما المحتشد بالخدع والحيل السينمائية، حين تصبح الفتاة الشابّة ـ خلال ساعة واقعية من العرض ـ عجوزا بشعر أشيب وملامح متهدّلة. وحين تنهار بروج، وتنقلب قطارات، وتسفح حروب دماء مقاتلين، ويتشرد ملك جبّار في الفيافي.
هنا، أيضا، يقوم التواطؤ المضمر بين المخرج والجمهور المشاهد. تواطؤ محوره أن “يحتال” المخرج احتيالاً فنيا ذكيا ماهرا، دقيق الصنعة، وأن “يصدّق” المشاهد تصديقا كاملا لا لبس فيه كي يحزن، أو يخاف، أو يفرح، أو يترقب ، بحيث تتحقق متعة الفرجة لديه.
ألا ينهض الأدب كذلك, وبنسبة كبيرة, على اللعب والتخييل وبناء عالم افتراضي محتشد بالحيوات والعلاقات والمسارات والمصائر والرؤى والأحلام، فيدلف إليه القارئ، ويتعرّف إلى تفاصيله، ينفعل ويتفاعل بما يجري فيه مما شكّله المؤلف وبناه؟
هذا النافل المعروف لا يتم العمل بموجبه في معظم برامج عروض الأفلام السينمائية على الشاشة الصغيرة، إذ يقوم معد البرنامج بتقديم موجز (على غرار موجز الأخبار!) عن موضوع الفيلم قبيل عرضه، وعن أبرز مساراته بلغة إنبائية مباشرة، فيفسد بذلك كل الجهود التي بذلها كاتب السيناريو والمخرج لإحكام نسيج الفيلم، ولتسلسل أحداثه وتناميها، ولتأجيل أو إخفاء مآل الشخصيات!
وكذا دأب العديد من النقّاد، بل غالبيتهم، على بيان موضوع ومقولة رواية صدرت حديثا، أو أعمال أدبية نالت جوائز، أو أخرى أُعيدت طباعتها، وسرد وقائعها الرئيسة، ومسالك أبرز شخصياتها ومآلاتها، بل هم يقدمون على هذا حتى مع قصص قصيرة لا يعدو طول الواحدة منها صفحتين أو ثلاث صفحات!
“تقاليد” نقدية كهذه من شأنها هدم المعمار الفني للكاتب، وتبديد طاقته المبذولة في إشادة عمله فصلا فصلا، وجملة جملة، سعيا منه لإبقاء قارئه “جاهلا” بوقائع العمل، يتابع تسلسله في توق لمعرفة ما يؤجل الكاتب الكشفَ عنه، أو ما قد يبقيه غامضا ومعلقا بالاحتمالات.
يحرص المبدع في عمله الأدبي والفني على قيام المتلقي بالرحلة وفق ما رسمه وصمّمه له بكل دروب الرحلة وطرقاتها وتشعباتها وتفاصيلها ورؤاها، بحيث يحدث أن يُقيم قصته القصيرة على كلمة واحدة في نهايتها أحيانا، أو يبني روايته على مقاطعها الأخيرة، أو ينسج أحداث فيلمه السينمائي أو عرضه المسرحي معتمدا على مشهد الختام.
ومن هنا فإن أسوأ سؤال مسبق يطرحه المتلقي أو يجيب عنه الناقد: ما موضوع العمل؟ أو: عن ماذا يتحدث العمل؟ لأن ما قد تفيد معرفته في ميدان المواثيق والمعاهدات بين الدول وفي مجال تحصيل المعلومات ,لا ينفع بتاتا في حقول الأدب والفنون.
وإني لأحسب بأن للإبداع الفني سحرا لا يفسده إلا الكشف المسبق عنه، وبأن له أسرارا وخفايا ومتواريات واحتيالات من الضروري الإبقاء عليها طي متن العمل ووفق ما جاءت عليه كي يخوّض المتلقي فيها.
وفي استعارة من ميدان الآثار أود أن أسأل: ألم يكن من التعسّف بحق الزوار اتخاذ قرار الكشف عن مومياء توت عنخ آمون بعد أن ظلّ لسنوات طويلة داخل تابوته المغلق، يُشيع غموضا محرّضا على التساؤلات، ويحثّ المخيّلة البصرية على رسم هيئته المحنطة، ويبثّ التهيب والرعشة في زوار جناحه في المتحف المصري، محمِّلا إياهم عشرات إشارات الاستفهام والتعجّب وهم يغادرون المتحف؟
ما الذي أنجزه قرار من هذا النوع ـ للزوار تحديدا ـ سوى افتضاح اللغز، وزوال الرعشة، وتبدّد التساؤل، وانطفاء المخيّلة، بعد أن تبيّن لهم بأن ما من مختلفٍ أو مميّز أو فريد في هيئة توت عنخ آمون وملامحه وحاله عمّا هي عليه المومياءات الأخرى المعروضة سابقاً؟!
من المؤكد أن النقاد لم يسلكوا جميعهم المسلك نفسه. بعضهم ابتكر طرائق وأساليب نقدية تحض المتلقين على القراءة أو المشاهدة أو الحضور من دون إفساد رحلتهم عبر نزع الملاءة عن الوقائع والمسارات.
شكلت كتاباتهم النقدية هنا دوافع حافزة ومرجعية تقويمية يمكن العودة إليها بعد إتمام الرحلة, محافظين بذلك على هندسة معمار المبدع, والمساحة الحرة لتذوق ورأي ورؤية المتلقي من جهة, وعلى غبش الفن وغموضه الشفاف, وخمار خفاياه, وتورياته, ومحفزات الفضول والبحث, من الجهة الأخرى.
______________
*قاص وكاتب سوري/ الجزيرة.نت

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *