*هدية حسين
يعرف أصدقائي الحميمون أنني لا أقرأ النصوص الطويلة على النت، وعندما اضطر لذلك فإن استيعابي لها أقل مما لو قرأتها ورقياً، إذ لا يزال الورق يغريني فلا تفوتني تفصيلة من ثوب الإبداع، لهذا كنت بحاجة ماسة لرواية ميسلون هادي “سعيدة هانم ويوم غد من السنة الماضية” وحصلت عليها بنسختها الورقية.
لماذا قلت بحاجة ماسة؟ الجواب هو لأنني أعرف قيمة ما تكتبه ميسلون هادي، وما هذه المقالة سوى وقفة قصيرة تقتضيها المساحة المسموح بها، ذلك أن هذه الرواية تحتاج الى وقفة تأمل طويلة كيما نفك شفرات الأعماق التي غاصت فيها المؤلفة لابتكار شخصية سعيدة هانم ومليكة جان.
توقعنا ميسلون هادي في تشابك شخصيتي الأختين سعيدة هانم ومليكة جان، الأولى مدرّسة عقلانية ومتزنة تقيس الأمور بالمسطرة كما نقول، والثانية رسامة خيالية ضجرة لها آراء غريبة ولا يعجبها العجب، وسنشتبك معهما حتى نكتشف ما هو أعمق من مجادلاتهما ومشاجرتهما اليومية، ذلك هو المخفي وراء الشكل، والذي يخترقه الى أعماق النفس البشرية التي تخبىء الكثير وراء الشخصية العادية التي نراها في الآخرين.
“الاختفاء عن الأنظار يشبه الحصول على المستحيل” بهذه العبارة تبدأ ميسلون هادي روايتها، تاركة مليكة جان تقترب من المستحيل ولو قليلاً، فحين تخرج من البيت تغير شخصيتها، ترتدي ملابس فضفاضة مبهذلة وكثيرة التجاعيد وترتدي أيضاً وجهاً عابساً فوق وجهها الجميل، وتحني ظهرها قدر المستطاع، فلماذا تفعل ذلك وهي الشابة الجميلة، هل بسبب عيون الآخرين، أم أن هناك سبباً مخفياً وراء هذا المظهر؟
قد نفكر في البداية أن ثمة ما يخيفها، أو أنها ربما ارتكبت جناية ما، لكن الأمر ليس كذلك.. ماذا إذن؟ علينا أن نكون صبورين مع هذه الشخصية التي تتنقل في عالم الخيال وترسم لوحات غريبة، بينما سعيدة هانم تعيدنا للواقع، واقعها هي والأسرة التي عاشت فيها، وواقع البلد بعد العام 2003.
ولأننا من أجل أن نعرف شخصية إنسان ما لا بد لنا من العودة الى ماضيه، فإن ميسلون هادي تعيدنا الى الطفولة والظروف التي عاشتها سعيدة هانم ومليكة جان، وتطعّم جُملها بالكثير من المفردات الشعبية، وهذا أسلوب عُرفت به ميسلون هادي دون غيرها من الكاتبات العراقيات، وتكاد لا تخلو صفحة من تلك المفردات.
ومن خلال الحوارات القريبة للنفس تسلط الضوء على الواقع ومتغيراته، ومنها على سبيل المثال:
ـ لماذا تأخرت في المجيء يا حمودي؟
ـ بسبب الشوارع المغلقة طبعاً يا سعيدة هانم (ص 14).
ـ اتصلت بها عمتي حورية وقالت لها بأنها ستتأخر بسبب قيام خبراء المتفجرات بتفكيك عبوة ناسفة في الطريق (ص 16).
و.. أخيراً جاء فوج الطوارىء يبحث عن سيارات مشبوهة فاخترق الطريق العام بالاتجاه المعاكس وأحدث ما يكفي من الهرج والمرج (ص18).
شخصيات أخرى مهمة تكمّل العمل منها شخصية العمة حورية التي تضفي طابعاً مرحاً في الرواية، وشخصية الأخ سليمان بك الذي هاجر الى كندا بسبب الحروب التي لا تنتهي والمداهمات وتعرضه الى السجن من دون تهمة، وسيكون همه فيما بعد كيف يزوج سعيدة هانم ومليكة جان، وكلما وجد عريساً وبعث صورته، تضع كل واحدة منهما الكثير من نقاط الاعتراض عليه.
قد تبدو الأحداث بسيطة في هذه الرواية، أحداث نمر بها غالباً، لكن وراء تلك البساطة التي وضعتنا في أجوائها الكاتبة ثمة ما هو أعمق كلما توغلنا في القراءة، أعمق وشائك ومشتبك في زمن عراقي تشتبك فيه الأشياء ويصبح اللامعقول معقولاً، وسنكتشف أن كل تلك الحوارات والتشابكات التي دارت بين الأختين ما هي إلا حوارات من طرف واحد، طرف متأزم تمليه عليه ضغوطات الحياة والوحدة والكآبة، فما سعيدة هانم ومليكة جان الا شخصية واحدة، ذات منشطرة تعيش بشخصيتين، بين ما تتمناه وما يفرضه الواقع المتأزم.
تنشطر الأنا لتخفف من وقع الضغوطات النفسية، بدراية أو من دون دراية، نفس مريضة تشتبك أناها، فالواقع الذي تعيشه سعيدة هانم قادها الى الثرثرة مع نفسها، كلنا نثرثر مع أنفسنا، لكن الغلو في ذلك يقود الى المرض النفسي، وهذا ما يؤكده علم النفس، هناك شعرة قد لا ترى بين ما هو طبيعي من الكلام وما يؤدي إلى الفصام، وقد يصل الى الجنون، فهل وصلت سعيدة هانم الى تلك الحالة؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه مجرد مخيلة تشطح وتمتص ما تخلفه الوحدة في النفس من ضغوطات وآلام لا يراها إلا من يكابدها؟
لقد صنعت سعيدة هانم عالمها الداخلي على النحو الذي جاء في الرواية، فهل هي سعيدة حقاً بهذا العالم؟ هذا ما سأتركه للقارىء، ففي الرواية الكثير مما يستحق الوقوف عنده وتحليله وفق الرؤى التي يراها. يُذكر أن الرواية صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت 2015.
__________
*ميدل إيست أونلاين