*بدرالدين عرودكي
سيُدهَش القارئ حينما يرى هذا الكتاب: «أخلاقهم وأخلاقنا»، (منشورات لا ديكوفيرت باريس)، لمؤلِّفَيْه: ليون تروتسكي (1879 – 1940)، وجون ديوي (1859 – 1952)، منشوراً بعد ستة وسبعين عاماً على تحريره كمقال كتبه الأول تحت العنوان نفسه ونشرته صحيفة (THE NEW INTERNATIONAL) في فبراير/ شباط 1938 والتعليق الذي كتبه الثاني عليه، ونُشِر في الصحيفة نفسها في شهر أغسطس/آب من العام نفسه تحت عنوان «بمناسبة أخلاقهم وأخلاقنا». إنها المرة الأولى التي يُترْجَمُ فيها النصّان إلى الفرنسية مع مقدمة كتبتها إميلي آش، أستاذة الفلسفة في جامعة باريس. لكن الدهشة ستتلاشى ما إن يتعرَّفَ ثيمة الكتاب: هل تبرِّر الغاية الوسيلة، أياً كانت الوسيلة؟ ما طبيعة العلاقة بين الغاية والوسيلة؟
ككل سؤال فلسفي، يبقى هذا السؤال راهناً وتبقى الإجابة عنه ضرورية كلما استدعت الضرورة أو الظروف أو الأفعال طرحه. لكن استعادته من خلال هذا الكتاب بالذات تفرض نفسها اليوم في ظروف العالم العربي لاسيما بعد عام 2011، عام الانتفاضة العربية ضدّ الاستبداد ومن أجل الكرامة، وخصوصاً في سورية. وهي ظروف يمكن مقارنتها بما كان يحدث في الاتحاد السوفياتي عاميْ 1937 / 1938 على أصعدة الإرهاب والتزييف والنفاق السياسي والأيديولوجي.
ذلك أن تروتسكي، رفيق لينين وخصم ستالين اللدود، لم يقم بمناقشة هذا السؤال من جديد خلال تلك السنوات إلا بمناسبة ما أدّت إليه دعاوى موسكو التي نظّمها ستالين بين 1937 و1938 ضدّ خصومه، ومنها -خصوصاً- دعواه ضدّ تروتسكي بالذات، بحجّة الاتفاق مع هتلر على تفكيك الاتحاد السوفياتي، وتبين فيما بعد أنها كانت تخفي وراءها نظاماً إرهابياً فاق الخيال: أكثر من 1600 شخص كانوا يُقتَلون كل يوم وعلى مدار أكثر من سنة، وهو ما أطلق عليه الإرهاب العظيم. إذ كي يدفع عنه التهمة الستالينية، دعا إلى تأليف لجنة دولية مستقلّة تحقِّق في الأمر ويتمكَّن أمامها من الدفاع عن نفسه مادام ذلك مستحيلاً في موسكو. قامت لجان الدفاع عن تروتسكي الأميركية والبريطانية والتشيكوسلوفاكية بتكوين لجنة، رفض العديد من الشخصيات الفكرية عضويتها بسبب الجبهات الشعبية التي قامت في أوروبا ضدّ الفاشية، لكن جون ديوي لم يقبل عضويتها فحسب، بل قَبِلَ رئاستها مما أتاح لقاء استثنائياً أدّى إلى حوارات شديدة الخصوبة بين القائد البلشفي والفيلسوف البراغماتي الأميركي، وقال عنها هذا الأخير بعد عشر سنوات من حصولها إنها تمثِّل أهمّ تجربة فكرية في حياته. كانت نتيجة لجنة التحقيق أنْ برّأت تروتسكي الذي ما لبث أن كتب هذه المقالة الطويلة بعد أن قام عديد من النقاد بالتأكيد خلال هذه السنوات على تطابق الستالينية والتروتسكية، وهي فكرة لاقت رواجاً واسعاً في صفوف الليبراليين والديموقراطيين والكاثوليك والمثاليين والبراغماتيين والفوضويين والفاشيين. وسبب هذا الرواج في نظر تروتسكي كان الجهل الكامل بالقواعد المادية لمختلف الاتجاهات، أي طبيعتها الاجتماعية ودورها التاريخي الموضوعي.
المعيار الذي اتّخذ لهذا التطابق هو ما أطلق عليه اللا أخلاقية البولشفية التي تعتمد المبدأ الجزويتي: الغاية تبرِّر الوسيلة. ومن ثمَّ، فالتروتسكية، بما هي بولشفية كالستالينية، لا تقبل مبدأ الأخلاق، ومن ثَمَّ تتساوى الستالينية والتروتسكية. إذ طالما برَّرَ المدافعون عن السياسة الستالينية الاعتقالات والسجون بوصفها ضرورية للمحافظة على النظام الاشتراكي، في الوقت الذي كان مناهضوها يتّخذون منها حجّة لإدانة الماركسية أساساً، باعتبارها تدعم تبرير الوسيلة بالغاية. ولأن تروتسكي ماركسي فإنه لو بقي في السلطة لما توانى عن استخدام كافّة الوسائل لتحقيق الغاية التي تتطلبها ديكتاتورية البروليتاريا.
سوف يحاول تروتسكي، عبر مختلف فصول مقالته الطويلة، دحض هذه المماهاة حين لا ينكر تبنّي الماركسية هذه المقولة: «الغاية تبرر الوسيلة»، وذلك بوصفها واحدة من قراءاتها! إذ المهم في هذه القراءة طبيعة الغايات التي ستبرر وسائل تحقيقها. وهو ما سيعالجه في الفصل الأخير الذي سيدور تعليق جون ديوي عليه، لأهمّيته في بيان تباين الموقف الفلسفي والسياسي بينه وبين تروتسكي، ولارتباط النقاش فيه كذلك بمشكلات اليوم، على الرغم من أن العصر الحالي تجاوز الصيغ والمفاهيم التي كانت تستخدم لتفسير التاريخ ولفهم مجرياته. يسري ذلك على أوروبا مثلما يسري كذلك بل- وبوجه خاص أيضاً- على عالمنا العربي.
لا يعدّ تروتسكي الغايات كلها مشروعة، لأن الغايات نفسها بحاجة إلى تبرير. والتبرير الوحيد المقبول من وجهة نظر الماركسية- كما يقول- أن تؤدي هذه الغايات إلى زيادة سلطة الإنسان على الطبيعة من جهة، وإلى إلغاء سلطة الإنسان على الإنسان من جهة أخرى. لا يعني هذا أن الوسائل لتحقيق هذه الغاية مشروعة كلها، أو أن هذه الغاية يمكن أن تبرِّر أية وسيلة. المسموح هو «ما يؤدي إلى تحرر الإنسان»، وتلك غاية لا تتحقّق إلا بالوسائل الثورية باعتبار أن الأخلاق المحرّرة للطبقة العاملة هي بالضرورة ذات طابع ثوري. يعني ذلك أن قواعد السلوك تُستَنبَطُ من قوانين التطوُّر الاجتماعي التي تتجسَّد من خلال النظرة الماركسية في صراع الطبقات الذي يسمّيه تروتسكي «قانون القوانين».
ولأن ما يمكن قبوله، إنما هي الوسائل التي تزيد من تماسك الطبقة العاملة والتي تنفث فيها روح كراهية القمع واحتقار الأخلاق الرسمية، أي أخلاق الطبقة المهيمنة، فإن الأخلاق الثورية تختلط مع مسألة الاستراتيجية وطرق العمل الثورية. هنا لا تنفصل الغاية عن الوسائل، مادامت الغاية تُستَتنبط من الصيرورة التاريخية، وما دامت الغاية المباشرة ستصير وسيلة لغاية لاحقة. يقول فردينان لاسال في مسرحيته: «لا تُبيِّن الغاية فقط، بل بَيِّن الدرب أيضاً؛ لأن الغاية والدرب مُتّحِدان إلى درجة/ يتغيَّر معها أحدهما مع الآخر ويتحرّضك معه/ ويكشف الدرب الجديد عن غاية أخرى».
استخدم البلشفيون مختلف الوسائل في صراعهم من أجل الوصول إلى السلطة. وكان لينين قد أعلن ضرورة «قبول كل شيء، كل التضحيات وحتى عند الضرورة استخدام الحيَل المختلفة، والدهاء، والطرق غير المشروعة، والصمت، وإخفاء الحقائق، من أجل الدخول في النقابات والبقاء فيها ومتابعة العمل الشيوعي فيها بأي ثمن». ذلك ضرب من الوسائل التي شرعنها لينين مثلما شرعن تروتسكي الإرهابَ في مراحل مختلفة من أجل الغاية المذكورة نفسها. الإرهاب الفردي هو المقصود هنا. مع فارق دقيق يتجلّى في النظر إلى ما يسمّيه «الفائدة الموضوعية» التي لا تكون في عمل الإرهابي الفردي إلا ضمن حركة جماهيرية تمنح الفعل معناه وفائدته. يقبل تروتسكي الفكرة القائلة إن اغتيال من يقومون بالقمع ضمن شروط حرب أهلية ليس عملاً إرهابياً: كالقيام باغتيال فرانكو وأركان حربه في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية.
على هذا النحو تبدو العلاقة بين الوسيلة والغاية والترابط فيما بينهما مسألة جوهرية في الأخلاق مثلما هي كذلك موضوع خطير بالنسبة إلى نظرية الممارسة السياسية. وهذا ما حمل جون ديوي على التعليق على مقالة تروتسكي مناقشاً بوجه خاص الفصل الأخير منها.
يقرِّر ديوي أن قول تروتسكي «كلُّ ما يؤدي إلى تحرُّر الإنسان الفعلي مسموح» قولٌ متماسكٌ ومبدأ أساس في الترابط بين الوسيلة والغاية. لكن اتِّباعه يعني فحص الوسائل بدقّة لمعرفة النتائج العيانية والموضوعية التي أدَّت إليها. إذ لا بدّ من التمييز بين معنيين للغاية: الغاية المبتغاة التي تستخدم مبرّراً، وغايات هي في الحقيقة وسائل نحو هذه الغاية. وما أعطى السمعة السيئة لمقولة الغاية تبرّر الوسيلة، هو أن الغاية المبتغاة والغاية المصرَّح بها والمبتغاة تبرّر استخدام بعض الوسائل، مثلما تبرّر عدم ضرورة فحص النتائج العيانية للوسائل المستخدمة! هكذا يرى ديوي -بحقّ- أنَّ «من الممكن التفكير أن تحرير الإنسانية كغاية سيؤدّي إلى فحص كل الوسائل التي تسمح بتحقيق هذا الهدف. لكن ذلك ليس الموقف الذي يتّخذه تروتسكي حين يصرِّح: الأخلاق المحرّرة للطبقة العاملة لها طابع ثوري.. وهي تستنبط قواعد السلوك من قوانين التطوُّر الاجتماعي أي قبل كل شيء صراع الطبقات الذي هو قانون القوانين».
ذلك يعني -كما نرى- غياب الترابط بين الوسائل والغايات الذي تحدَّثَ تروتسكي عنه على وجه الدقة. ولئن كان ديوي يوافق على هذا الترابط، ولا يستبعد صراع الطبقات كوسيلة لتحرير الإنسانية، إلا أنه يستبعد كلّياً المنهج الاستقرائي، الذي يحول دون فحص ما إذا كان صراع الطبقات هو الوسيلة الوحيدة التي تؤدّي إلى تحرير الإنسانية. لا بدّ في نظره من تبريرها في ضوء مبدأ الترابط بين الغاية والوسيلة عن طريق فحص النتائج العيانية لا عن طريق النتائج المستنبطة. شيءٌ أن نقول إن صراع الطبقات يؤلف جزءاً من الوسائل لتحقيق غاية تحرير الإنسانية، وشيءٌ آخر تماماً أن نقول بوجود قانون مطلق لصراع الطبقات يملي الوسائل الواجب استخدامها. لأنه إن كان يملي الوسائل فهو أيضاً يملي الغايات!
يبدو هذا الحوار الصريح بين أحد ممثّلي الفلسفة الماركسية وممثِّل الفلسفة البراغماتية حواراً غير مسبوق، لا سيما أنه يدور حول تمفصل الغايات والوسائل المؤدِّية لها. أما الاختلاف فهو بين موقفين: أحدهما يقول باستنباط الوسائل من الغاية المبتغاة، وهو موقف تروتسكي، وثانيهما يقول بفحص الوسائل ومنها -بالطبع- صراع الطبقات كي نقيس نتائجها قبل أن نقرر مشروعيتها بالنسبة إلى الغاية التي تزعم السعي إلى تحقيقها.
تغيَّر العالم كلّيّاً بعد مضيّ ستة وسبعين عاماً على هذا الحوار. كان صراع الطبقات أفق هذيْن النصّيْن وشاغلهما كما تقول إميلي آش، وحلّت مَحَلّه اليوم صيرورة الرأسمالية المنتصرة التي هي في أساس أزمة بيئية غير مسبوقة. يبقى أن استعادة مشكلات هذين النصيْن، مهما بدت فضيحة في نظر من يرفض الماركسية أو من لا يرى في البراغماتية إلا فلسفة رجال الأعمال الأميركيين، ضرورة تفرض نفسها بوصفهما فرضِيَّتَيْ عملٍ صالحَتَيْن.
_________
*الدوحة