تجربة سعيدة


*أمجد ناصر


هناك، حسب ظني، لحظات سعادة في حياة البشر وليست هناك حياة سعيدة. أتحدّث عن الأفراد لا المجتمعات، بعيداً عن تصنيفات «المؤشر العالمي للسعادة» (الذي ناقشته المجلة في عدد سابق ولم تتسنَ لي المشاركة فيه). فهذه تصنيفات تتعلّق بالرفاه الاجتماعي والاقتصادي وصلاح الدولة ومؤسساتها. وهذا يقع في خانة الرفاه والحكم الرشيد، على الأغلب، أكثر مما يقع في خانة السعادة التي تكاد تكون فردية، رغم أن شعار بعض الأحزاب الشيوعية العربية يتحدّث عن: وطن حُرّ وشعب سعيد. والغريب أن العرب، الذين لم يصنفوا في خانة «الدول السعيدة»، هم أكثر شعوب الأرض استخداماً لهذه الكلمة السحرّية خصوصاً في الأسماء. فمن يسمي في العالم: سعد وسعيد وسعيدة وسعدة ومسعود ومسعودة وسعادة وأسعد وسعدات وسعدية وسعد السعود وسعيدان وسعدون، غير العرب؟
ومن لحظات السعادة الشخصية غير الأبيقورية (اللذة) ولا الافلاطونية (الفضيلة) هذه التجربة التي حدثت لي في فندق صغير، في بلدة إيطالية جنوبية تطلُّ، بكل أريحية، على البحر الأبيض المتوسط. فقد كان يكفي أن أغادر غرفتي، ذات الأباجور الخشبي الكبير، التي تُطلّ على سفح جبل، وأنتقل إلى شرفة صغيرة، في الجهة الأخرى من الفندق لكي أكون أمام البحر. الطابع البيتيِّ للفندق، خصوصاً شرفاته، يعطي انطباعاً بعلاقة مختلفة مع المكان، تتعدّى علاقة السائح العابرة به، فكأنك هنا لتقيم، لتمكث، لا لتعبر دون أن تترك وراءك أثراً أو تحمل معك أثراً. وليس هذا من خصائص الفندق، بل من خصائص البيت. كأنَّ الفندق، مهما كان مجهزاً بكل وسائل الراحة، مصمَّم على أساس العبور. ينطوي، دائماً، على شيء يذكرك بالمغادرة حتى وأنت تحلُّ فيه. 
خطر لي في صبيحة اليوم الثاني لوصولي، وأنا أنحني على الشبك الحديديِّ للشرفة تاركاً كياني كلَّه يتشرَّبُ تفاصيل المشهد، بذبذباته، أشعة شمسه الصباحية، زرقة بحره، هوائه الخفيف، أنَّ هذه اللحظة شظية متطايرة من الأبد اخترقت جسدي. هُيِّئ لي أن هذه اللحظة المشحونة بطاقة استثنائية يمكن أن تكون من اللحظات الخارقة التي يشعر المرء، معها وفيها، أنه لم يعد بينه وبين محيطه حاجز. بأنه جزءٌ مما يرى ويسمعُ ويشمُّ ويحسُّ. خطر لي أيضاً، أنه من الممكن أن تكون هذه اللحظة من اللحظات النادرة التي تمنح لنا نحن البشر، أحياناً، من دون أن نفرِّقها عن اللحظات العادية القابلة للتكرار. لحظات مثل هذه تأتي من دون تخطيط. من دون موعد، إذ يصعب أن تضع نفسك في مهبِّها. المحظوظ، كفاية، هو الذي يكون جاهزاً، جسداً وروحاً، لاستقبالها وامتصاصها حتى الثمالة. فأيُّ سعادةٍ، حينئذ، تشعرها. تتخللك. تستخفَّك. تطير بك في الهواء، بل تجعلك جزءاً من الهواء؟ 
أزعم أنني عرفت هذه اللحظة وأنا أنحني على شبك الشرفة الحديديّ. هُيّئ لي أنها دامت دهراً. وهلةً شعرت أن الفارق بيني وبين محيطي قد انمحى. أصبحت جزءاً منه، جزءاً من الطبيعة وأشيائها. أهذا قريب من لحظات التجلّي الصوفية؟ لم يكن الأمر كشفاً. لم أَرَ أكثر مما هو موجود. لم تنفتح لي «طاقة القدر»، لم يُستجب لأدعية وأمنيات مستحيلة. فقط رأيت ما هو موجود أمامي وأصبحت جزءاً منه. أظن أن الأمر يتعلّق بالتوافق، الانسجام، النادر بيننا ومحيطنا، إن لم يكن بيننا وأنفسنا. كان مشهد البحر، من إحدى شرفات الفندق، جميلاً، ساحراً ولكنه لم يكن خارقاً. الخارق هو تلك اللحظة الشبيهة بالإلهام التي تهيأت لي وجعلتني أصبح بكياني كله جزءاً من قصيدة الطبيعة التي تستعصي على الوصف.
______
*المصدر: الدوحة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *