الشِّعْرُ والفلْسَفَة إبْداعُ القَلَــق


*صلاح بوسريف


لَمْ يَرُقْ لِي العُنوان المقترح بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، «الفلسَفة والشِّعْر، حِوارُ الرُّوح والعَقْل». فهو، كما يَبْدُو لي، يُحِيلُ الرُّوح على الشِّعْر، ويَنْسُبُ العَقْل للفَلْسَفَةَ. ما يَعْنِي، أنَّ الحِوارَ يَنْتَفِي بَيْن الاثْنَيْن، ويُصْبِح لاَغِياً، عِلْماً أنَّ هذه لَيْسَتْ هي علاقَة الشِّعْرِ بالفَلْسَفَة، ولا هي علاقَة الفَلْسَفَة بالشِّعْر. ثُمَّ ما الَّذِي نَعنِيه بالرُّوح هُنا، وما الحَقْلُ، أو المَجالُ الَّذِي يُسْعِفُنا في تَفْكيكِ هذا المعنى، حتَّى لا أقُولَ المَفْهُوم؟
هُومِير، في عَمَلَيْه المَنْسُوبَيْنِ إليهِ، «الإلْياذَة» و «الأودِيسا»، حَرِصَ على اسْتِنْفارِ الخَيالِ، لِتَأْجِيجِ العَقْل. ثَمَّة مُعْضِلاتٌ واجَهَتْ هذا الشَّاعِرَ، كما وَاجَهَتْ غَيْرَه، من الشُّعراء والفلاسِفَة، أو مَنْ كانوا غارِقِين في تأمُّل «الوُجُود»، لَمْ تَكُن تَسْمَحُ بإدْراكِ الأشْياء، بالصُّورَة التي تُتِيحُ بتَفْسِيرَها، أو تعْلِيلِها، بنوعٍ من «المَنْطِق» أو «البُرْهان» القَابِل للِتَّصْدِيق، فَكانَ الخَيالُ، لا «الرُّوح»، هو ما أسْعَفَ في ابْتِداعِ هذه السُّرُود، التي شَرَع العَقْلُ، من خلالِها، في تَصَوُّر علاقَة الإنْسانِ بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالوُجُود، وبالظّواهِر الطبيعية، الَّتِي كانتْ تَبْعَثُ في نَفْسِه كثيراً من القَلَقِ، لأنَّه لَمْ يَكُن أدْرَكَ كيف تَخْرُجُ الأشياء عن طبيعَتِها، أو تَصِيرُ أذًى، أو شَرّاً وقُبْحاً، في مُقابِل الخَيْر، أو الجَمال، كما سيَحْدُثُ لاحِقاً.
كان لا بُدَّ من الشِّعْر، لا بُدَّ من الحَكْيِ، ولا بُدَّ من الأسطورة والخَيالِ، حتَّى لا يَغْرَقُ العَقْلُ في المُجرَّداتِ، التي، كانت، رُبَّما، تَحْتاج لِمَزِيدٍ من السُّرود والحِكاياتِ، أو الأساطير بالأحرى، لِتُدْرِك الأشياءَ، حتَّى دُون مِثالٍ. لُجُوءُ الشِّعرِ إلى الأسْطُورَة، هو لُجُوءٌ إلى الفلسفةِ قبل أن يَشْرَبَها العَقْل، أي إلى «بِدائِيَة» الفكر البشريّ، وتحديداً إلى الخيال، في تَمَثُّل الأشْياء واخْتِلاقِها. ولَعلَّ في هذا ما يَشِي بمعنى «البِدايَة»، الذي يَعُودُ بنا إلى هايدغر، الذي اعتبر البِدايَةَ أهَمّ من حَدَث الاكتمال. 
هراقْلِيط، من فلاسِفَة ما قبل سُقراط، كان مُضْطَراً في تَفْسِيره لِلصَّيْرُورَة، كما أدْرَكَها، أنْ يلْتَجِئ للطبيعة أو المِثال. سَرْدُهُ كان مُخْتَلِفاً عن سَرْدِ هومِير، لأنَّه اتَّخَذَ من النَّهْر المُتَدَفِّقِ، الذي لا يَسْتَقِرُّ على ماءٍ، ومن الشَّمْس، التي لا تَبْقَى هي نفسُها كُلَّ يَوْمٍ، طريقَةً في إدْراك هذا التَّحوُّل الذي يجري في الكَوْن، وفي طبيعة الأشياءِ، وفي إبلاغِ حكايتِه هذه، بأسْلُوبٍ، لم يَخْرُج عن الأسلوب الشِّعريّ، أو ظَلَّ مُخْلِصاً، لِمَنْطِق الخيال الذي يُؤَجِّج العَقْلَ، ويَسْتَنْفِرُهُ. 
وقَدْ أَعُودُ إلى ما قَبْلَ هذا التَّارِيخِ، إلى ما نَنْساهُ ونَتجاهَلُه في فَهْمِنا للبِدَاياتِ، أي إلى الفكر الأسْطُوريّ في تَجَلِّيَاتِه المَجازية، في تَفْسِير بعض الظَّواهِر، أو مُحاوَلَة تَفْكِيكِها، أو فَهْمِها، في أقَلِّ تَقْدِير، كما هو الشَّأْنُ مع المَوْت، كما في أسطورة «جلجامش»، أو ملحمة «أترا ـ حسيس»، أو إ«إينُوما إليتش»، التي اخْتارَتْ موضوع الخَلْقِ، واسْتِحْكام الآلهة في موضْوعِيْ الوُجود والعَدَم، مِمَّا ظهَر في أسطورة الطُّوفان، التي سَتَتَبَنَّاها التَّوْراة، بالصُّورَة نفسها، وبالتَّفاصِيل نفسها، وأيضاً القرآن، والاختلاف لم يَحْدُث سِوَى في الأسْلُوب، وفي طريقة صياغة النَّصّ، أو «اللَّعِب» باللُّغَة، وهايدغر يُسْعِفُنِي هُنا، أيضاً في اعْتِبار الشِّعْر، «شَكْلاً مُتواضِعاً من أشْكالِ اللَّعِب» كَوْنه يَخْتَرِع من دُون انْقِطاعٍ، عالَمَهُ الخَاصّ».
الفِكْر البَشَريّ، منذ ما قبل التَّاريخ، اخْتَارَ أنْ يتَلمَّسَ طَرِيقَهُ بالشِّعْرِ، وهُو، بهذا الفِعْلِ غير المقصودِ، إنَّما كَانَ يَتَفَلْسَفُ مَجازاً، أو كانَ يُفَكِّرُ تَخْييلاً، لا حُجَّةً أو تَعْليلاً. وهَذا، رُبَّما، كان بَيْنَ ما دَفَع أفلاطُونَ للِتَّحامُلِ على الشِّعْر والشُّعراء، حينَ اعْتَبَر الشِّعْرَ مُضَلِّلاً للفِكْرِ، من خِلال ما يَبْتَدِعُه من مَجازاتٍ وصُوَرٍ، هي ما يُغْرِي «الجمهور» ويَجْتَدِبُهُ، ما جَعَلَه يعتبِر الشِّعْر «نَقِيضاً» للفلسَفَة، وَ «عَدُوّاً» لها. فأفلاطُون أدْرَكَ بِدَهاء الفيلسوف وفِطْنَتِه، أنَّ لُغَةَ الشِّعر، هي خَطَرٌ على لُغَةِ الفلسفة، أو أنَّ في الشِّعْر، ما قَدْ يُرْبِك صَفاءَ الفلسفة، ويَخْرُجُ بها من رَزَانَتِها، وتَعَقُّلِها، كَوْن الشِّعْر، هو ضَالٌّ، ويَمِيلُ، بطبيعَتِه إلى الانْحِرافِ، وابْتِداعِ التَّوَتُّر والقَلَق. الَّذِي سَيَعُودُ إلى هذه العلاقة «البدائية»، بين الشِّعر والفلسفَة، اثْنانِ، مِمَّن، أعْتَبِرُهُما، فلاسفة، اسْتَعانُوا بالشِّعر لِحَلِّ بعض مُعْضِلاتِ الفلسفة، أو اسْتَبْطَنا الشِّعْرَ في الفلْسَفَة، أو الفَلْسَفَةَ في الشِّعر، نيتشه، وهايدغر، وهُما مَعاً كان يَكْتُباِنِ الشِّعر. رغم أنَّ هايدغر، كان انْتَقَدَ الشِّعْرَ والميتافيزيقا، لَكِنَّه، عادَ في ما بَعْد، لِيَعْتَبِرَهُما تِرْياقاً مُضادّاً للِتِّقْنِيَة، ولِنَزْعَتِها اللاَّإنْسانِيَة، أي باعْتِبارِهِما «صُورَتانِ إنْسانِيَتانِ للتَّعْبِير عن الوُجُود». فنحن حِينَ نَخُصُّ الشِّعْرَ بالرُّوحِ، والفلسَةَ بالعَقْلِ، نَعْمَل على مُضاعَفَةِ هَشَاشَةِ طبيعة العلاقَة بين هَذَيْن الزَّوْجَيْنِ. فَمسافَةُ هذا «الاخْتِلاف الهَشّ»، بين الشِّعْر والفلسَفَةِ هِيَ، بحسب هايدغِر، المسافَة التي عَبْرَها يَتبَدَّي ذلك «الغُمُوضُ الخاصّ» بِكُلٍّ مِنْهُما، لَكِنَّه «واضِح».
أليس الشِّعْرُ، في بِنائِه، هو نَوْعٌ من المِعْمارِ النَّاقِصِ، أو البِناء الذي يَرْفُضُ الامْتِلاء، أو يَحْرِص على تَثْبِيتِ النَّقْصِ والتَّصَدُّعِ، في هذا البِناء، وأنَّ العَمَلَ الشِّعْرِيَّ هُو مَشْرُوعٌ مفتوحٌ على الكِتابَةِ، أو على المَحْوِ والإفراغ، بدل المَلْءِ والإكْمالِ، وهو في هذا يلْتَقِي مع الفلسَفَة، التي هي تَشْوِيشٌ دائِم على «الحقيقة»، وإرْباكٌ لَها، وفق ما كان يفعَل سُقراط، في وَضْعِ السؤال تِلْوَ السُّؤال، والجَواب، عِنْدَهُ، كان فَخّاً، وليس بَدَاهَةً، أو فِطْنَةً من قِبَل المُسْتَجْوَبِينَ؟ مَنْ يُجِيبُ، إنَّما يضاعِفُ السُّؤالَ، ويُحَمِّلُه مزيداً من الهَشَاشَةِ والتَصَدُّع. وفي الشِّعْرِ، ليس ثَمَّةَ جواب، ما دامَ الجَوابُ امْتِلاء، أو هو بِناءٌ. 
لا أتحدَّثُ، هُنا، عن «القصيدة»، في بنائها ومفهومها العَرَبِيَيْن، القصيدةُ جوابٌ، بناءٌ، تذَكَّروا ابن طبابا العلوي في كتابه «عيار الشِّعر»، وهي اكتمالٌ، إنْهاءٌ وإغْلاقٌ، وهي ليست ذات علاقَة بالفلسفة، رغْمَ أنَّنا في تُراثِنا الشِّعري القديم، نَعْتَبِرُ أبا تمَّامٍ والمعري، من الشُّعراء المُتَفَلْسِفِين، وهُما، رغم جُرْأتِهِما، لَمْ يَخْرُجا من هذا التَّامِّ والكامِل، ولَم يُفَكِّرا في مفهوم العمل الشِّعري، الذي سَيُفَكِّر فيه صُوفِيّ مَجْهُول، هو النِّفَرِيِّ، الذي لم يَجِد، آنذاكَ من يَقْبَل بمُغامرتِه، ولا بما فَتَحَه من شُقُوقٍ في السُّورِ الحَدِيدِيِّ لـ«القصيدة»، التي ما زَالَ كثيرٌ من شُعراء الحداثة، بمن فيهم أدونيس، نفسه، لَمْ يَخْرُجُوا منها.
هَلِ الفلسفةُ باعتبارها، هِيَ أيضاً، في مَفْهُومِها العتيقِ هذا،، كِياناً مُغْلَقاً، في مُقابِل «الفِكْر»، وأنَّها ذَهَبَتْ نَحْوَ الكمالِ، والجَوابِ، في ما الفِكْر، هو الفَلْسَفَةُ، وهي تَسْتَعِيدُ بِدائِيَتَها التي انْفَرَطَتْ منها، تماماً، مثلما حَدَثَ للشِّعر، الذي تَمَّ اخْتِزَالُه في القصيدة دون غيرِها من الأشكال الأخْرى؟ أليْسَ هذا هو ما يَنْبَغِي أن نُفَكِّرَهُ معاً، في إعاد تَفْكِير العلاقة بين الشِّعْر والفلسفة، من زاوية اسْتِبْطانِ الشِّعْرِ للفَلْسَفَةِ، واسْتِبْطان الفَلْسَفَة للشِّعْر، أي بما يَجْعَلُهُما، يَفْتَحانِ، معاً، العَقْلَ على الخَيال، وعلى السَّرْدِ والأسطورةِ، وعلى المُوسيقى، أو الإيقاع، بالأحرى. وتَحْضُرُنِي هُنا إشارةُ عبدالسلام بنعبدالعالي، الذي كان في أحد اللِّقاءات، في كلية الآداب في المحمدية، حين أزْعَجَتْهُ إحْدَى الحاضِراتِ، وهي أستاذةٌ جامعية، في الجامعة نفسها، التي كانت تتكلَّم مع زميلةٍ لَها، في الوقتِ الذي كان يقرأ فيه مُداخَلَتَهُ، حين طالبَها بالصَّمْتِ، والإنْصاتِ، لأنَّ ما يقرأُهُ، كما قال، فيه مُوسيقى، أي مَكْتُوبٌ بحِسٍّ شِعْرِي، ويحْتاجُ لِمَزِيدٍ من الصّمْت والإنْصاتِ، وهذا ما يمكن أن نَلْمَسَه في كتاباتِه، التي فيها من العَقْلِ، بقدر ما فيها من الخَيالِ، أمَّا الرُّوح، فهي «من أمْرِ رَبِّي».
«من كلمة ألقيت في اليوم العالمي للفلسفة»
__________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *