*اسكندر حبش
لا أذكر بالضبط متى رأيته للمرة الأولى، مع العلم أني اكتشف اليوم أن خمسا وعشرين سنة قد مضت على غيابه. سريعة مرّت هذه السنون. ربما كان ذلك في بداية ثمانينيات القرن الماضي. بيد أن الأكيد الذي أنا على يقين منه: مكان اللقاء. كان ذلك في القسم الثقافي في «السفير»، حيث بدأنا نتردد مطلع شبابنا، بعد الاجتياح الإسرائيلي العام 1982. كنّا نخط أولى محاولاتنا الكتابية في الشعر والمقالة، وقد وجدنا مكانا رحباً لنشر أول نتاجاتنا. في هذا المكان الذي كان يتردد إليه قسم كبير من الكتاب والفنانين، التقينا للمرة الأولى بمـحمد عـيتاني.
لم يكن اسمه غريبا عليّ، صحيح أني لم أكن قرأت أعماله الموضوعة بعد، إلا أن بعض ترجماته العديدة وجدت طريقها إلينا في تلك الفترة وبخاصة ما ترجمه للماركسيين الذين كنّا نميل إليهم في تلك الفترة، لكن مع بداية ابتعادنا عن تلك الثقافة، لا أخفي أن محمد عيتاني جعلني اكتشف واحدا من أكبر القامات الإبداعية والروائية في العالم: الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس، إذ نقل إلى العربية واحدة من روائعه الكثيرة: «موت أرتيميو كروز»، التي صدرت يومها ضمن سلسلة «ذاكرة الشعوب»، التي كان يشرف عليها الروائي اللبناني الياس خوري لدى «مؤسسة الأبحاث العربية».
صحيح أن محمد عيتاني نقل النص يومها من الفرنسية، (النص الأصلي بالأسبانية)، لكنك ولا للحظة واحدة تشعر بهنة ما في النص العربي، بل جاء منسابا بشكل مدهش، كأنه أعاد كتابته. هل تمثل عيتاني يومها نفسه كاتب الرواية، بمعنى أن ترجمته جاءت بديلا من مشروع ما كان يكتبه؟ كلّ شيء ـ وبخاصة الكتابة ـ كان مؤجلا في حياة عيتاني، وفق ما عرفناه يومها. إذ أتاحت لنا تلك اللقاءات أن نتعرف أكثر إليه، وأن نقترب منه ومن هواجسه، وحتى من قراءاته ويومياته وأقاصيصه عن بيروت وأحيائها وناسها التي لا تنتهي.
لا أعرف لماذا لم يكتب ذلك كله. فقط لو روى الحكايات التي كان يحفظها لخرج بمجلدات ضخمة تؤرخ لتفاصيل، قد تكون ذهبت اليوم إلى غير رجعة. من هذه الحكايات اكتشفت لاحقا كتابه «أشياء لا تموت». قراءة أخذتني إلى عوالم ريفية إذا جاز التعبير، بمعنى أنك تكتشف فيها ريفية بيروت في المنتصف الأول من القرن العشرين، كأنك تجهل فعلا هذه المدينة، على الرغم من أنك تعيش فيها. ربما هي المشكلة الدائمة التي كانت تتبدى في كتابات غالبية المثقفين الذين يصفون بيروت بأنها مدينة من دون ذاكرة، أو أن أناسها من دون ذاكرة. لكن مع كتاب عيتاني، تكتشف كم أن الذاكرة هي عصب الحياة والكتابة.
ربما هذا العصب الجميل، لم نكتشفه في ما بعد مع ترجمته لرواية «العشيق» لمارغريت دوراس، التي بدت كأنها ترجمة مستعجلة. وهذا ما اعترف به ذات مرة من أنه ترجمها بليلة واحدة. وحتى كتبه اللاحقة لم تكن تشبه بمناخاتها «كتاب أشيائه». ربما وعلى خلاف كثيرين، أجد أن محمد عيتاني بعد أن كتب الحكاية، غادرها ليتحول إلى الكتابة. ربما أراد أن يصبح «كاتبا» لا أن يبقى حكواتيا، من هنا اختلفت النبرة، واختلف المناخ، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل استطاع التوصل إلى ذلك؟ ربما، لكن القراءة، قراءتنا نحن، أحبت أن تبقيه في هذا الإطار، لأنها وجدت «يافطة» تضعه تحتها، بينما كان الرجل يرغب في مشروع آخر، من هنا كانت الترجمة عنده، وبخاصة الترجمات الروائية، وكأنها شكلت مشروعا بديلا. مشروع أن يصل إلى الرواية التي لم «يعد يرغب في كتابتها» أو لنقل التي لم يتوصل إلى كتابتها بشكل يرضى عنه، من هنا اعتنى بالترجمة الروائية بشكل كبير جدا، وكأنه في ذلك كان يكتب رواياته الخاصة، وليس يترجمها.
خمس وعشرون سنة مضت على رحيل محمد عيتاني. أتذكره مثلما سيتذكره بعض أصدقائه السادسة مساء غد الخميس، في الندوة التي دعا إليها «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» (قصر الأونيسكو)، والتي يتحدث فيها كل من الياس خوري ومحمد دكروب وعبيدو باشا وروجيه عوطة.
_________
* شاعر ومترجم من لبنان (السفير)