د . يسري عبد الغني عبد الله
خاص ( ثقافات )
في يوم 18 من شهر أبريل من كل عام ، يحتفل العالم باليوم العالمي للتراث ، وذلك وفقًا لاقتراح المجلس الدولي للمعالم والمواقع الثقافية ، وقد تقرر هذا الاحتفال منذ عام 1982 ، بهدف تعزيز الوعي للمحافظة على التراث الثقافي العالمي ومضاعفة الجهود اللازمة لحمايته ، ولكن بكل أسف يمر علينا هذا اليوم كأي يوم مرور الكرام ، دون أدنى اهتمام منا على كل المستويات ، لنعرف الناس بأهمية الحفاظ على تراثهم وحمايته وصونه والدفاع عنه .
التراث الحضاري على اختلاف أنواعه وأشكاله مبعث فخر للأمم واعتزازها وهو أكبر دليل على عراقتها وأصالتها ، وهو خير تعبير عن الهوية الوطنية وصلة وثيقة لا تنفصم ولا تنقطع بين الماضي والحاضر ، وقديمًا قالوا لنا : من لا ماضي له لا حاضر له ، والحاضر ابن الماضي ، المهم أن نأخذ من هذا الماضي الدروس والعبر المستفادة حتى يمكننا أن نصنع بأيدينا وليس بأيدي الآخرين حاضرًا أفضل .
أقول لكم : إن عدم معرفة تراثنا بكل جوانبه يعني في المقام الأول تغييب العقل وإلغاء الولاء و الانتماء للوطن الأم ، وإخلال وإجحاف بمبدأ المواطنة ، وفي عصر العولمة غير السعيد الذي نعيشه لن ينقذنا من طوفان محو الهوية و الإنمياع والذوبان في الآخرين إلا التمسك بتراثنا الثقافي وحمايته والوعي به .
حقًا إنه من المؤسف أن يتعرض تراثنا للتجهيل والسرقة والضياع والنهب والتدمير ، والأمم التي لا تحمي تراثها لا صفة بها و لا تستحق أن تتوارث هذا التراث بكل أنواعه وأصنافه : المادي وغير المادي ، في الوقت الذي تعتبر الأمم الحامية لتراثها هي الأمم الواعية بمقدراتها التاريخية والحضارية ، وهي الأمم التي تعي بأن الدول المتحضرة تقاس بمدى ثقافتها وفنونها الجميلة .
التراث يا سادة هو كل ما ينتقل لنا من عادات وتقاليد وعلوم وآداب وفنون ، ونحوها من جيل إلى جيل ، مثل : الفنون الشعبية ، الشعر ، الغناء ، الموسيقى ، المعتقدات الشعبية ، والقصص ، والملاحم ، والحكايات ، والأمثال التي تجري على ألسنة العامة من الناس ، أضف إلى ذلك عادات الزواج والميلاد والموت والمناسبات المختلفة وما تتضمنه من ألوان الرقص والألعاب والمهارات ، وغيرها من الطرق الموروثة في الأداء والأشكال .
قرأنا أن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بصدد إعداد موسوعة للتراث العربي تشمل أسماء الأماكن التراثية في الدول العربية مدعومة بالصور للتعريف بها دوليًا ، ولصون الهوية العربية ، وأنهم وضعوا خطة عمل 2016 ـ 2020 ، عبارة عن إستراتيجية عربية لحماية التراث العربي المهدد بالاندثار ، ونحن في انتظار هذه الإستراتيجية وتفعيلها على أرض الواقع ، راجين أن نراها ونشعر بها قبل 2020 ، لأن الأعمار بيد الله تعالى .
وأذكرك أن لدينا مواثيق واتفاقيات عربية ودولية لا أعتقد أننا نعرف عنها شيئًا ، ولو كنا نعرفها ونعيها ما وصل تراثنا إلى ما يعانيه من إهمال وضياع ، على سبيل المثال معاهدة الثقافة العربية لسنة 1945 ، وميثاق الوحدة الثقافية الذي اعتمد في مجلس جامعة الدول العربية في الدور 41 لسنة 1964 ، والذي أكد في المادة 15 على أهمية التعاون العربي لإحياء التراث العربي والمحافظة عليه !!! .
ولدينا اتفاقية لاهاي بهولندا لعام 1954 ، وبروتوكوليها الاختياريين لعام 1999 ، وكذلك الاتفاقية الدولية لحماية التراث الثقافي والطبيعي التي اعتمدت من المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو عام 1972 .
ولدينا قرار مجلس الأمن رقم 2199 لسنة 2015 ، الذي يقضي بتجفيف منابع الإرهاب وتجريم الاتجار بالتراث الثقافي ، وتوصية اليونسكو بشأن صون الثقافة التقليدية والفولكلور لعام 1989 ، وإعلان اليونسكو بشأن التنوع الثقافي لعام 2001 ، وإعلان اسطنبول لعام 2002 ، المعتمد في اجتماع المائدة المستديرة الثالث لوزراء الثقافة
كما أريد أن أعرفك باتفاقية باريس المعتمدة في 17 أكتوبر 2003 ، والخاصة بحماية التراث الثقافي بنوعيه : المادي و غير المادي ، ويقصد بالتراث الثقافي المادي التراث الطبيعي أو المرئي أو المشاهد أو الملموس ، أما التراث الثقافي غير المادي فهو : أشكال التعبير المختلفة ، والتقاليد والفنون والعروض والآلات و وسائل أداء قطع الموسيقى المختلفة ، والأماكن الثقافية التي تقام بها الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات ، والمعارف المتعلقة بالكون والطبيعة وما يتعلق بها من ممارسات ، يضاف إلى ذلك المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية .
وجدير بالذكر أن نشير هنا إلى أن اتفاقية اليونسكو لحماية التراث الثقافي المغمور ، والتي تم توقيعها في باريس عام 2001 ، حيث أن بعض الدول العربية لم تصادق عليها حتى الآن ، ولا نعرف أسبابًا مقنعة لذلك .
وأذكرك بالمؤتمر الدولي لحماية الآثار والذي عقد في 13 ـ 14 مايو 2015 ، الذي استضافته وزارة الآثار المصرية ، تحت عنوان (الممتلكات الثقافية تحت التهديد : التداعيات الثقافية والأمنية لنهب الآثار بالشرق الأوسط) ، وقد تناول المؤتمر دور المجتمع الدولي والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص والمؤسسات الدولية والحكومية في تقديم العون والمساعدة للدول من أجل حماية آثارها من الانهيار والنهب والعبث بها ، وخاصة التي تقع في ظل الصراعات والنزاعات المسلحة .
نتمنى أن يأتي اليوم الذي تخرج فيه المؤتمرات التي نعقدها بشأن حماية التراث وصونه ، تخرج بتوصيات جادة فاعلة ، تصلح إلى أن نحولها إلى آليات قابلة للتنفيذ ، وآن الآوان لكي ننسى المقولة الشهيرة التي تقول : المؤتمرات توصيات وأكلات ، وأحيانًا تكون أكلات بدون توصيات .
وإذا كنا جادين بحق في صون وحماية تراثنا ، فعلينا أن ندرس كل المواثيق والاتفاقيات والمعاهدات والبرتوكولات التي وقعناها ولم نوقعها ، حتى يمكن لنا صون أو حماية تراثنا ، ونعني بذلك اتخاذ التدابير الرامية إلى ضمان استدامة التراث بما في ذلك تحديد هذا التراث وتوثيقه ، وإجراء البحوث العلمية الجادة بشأنه ، والمحافظة عليه من العبث والتدمير والإتلاف والتهريب والسرقة والإهمال وتعزيزه وإبرازه والتعريف به ، وكذلك نقله والتوعية به عن طريق جميع أنواع التعليم ، وجميع المؤسسات الثقافية والإعلامية ، ومنظمات المجتمع المدني الذي تعمل في مجالات الثقافة المختلفة .
التراث الثقافي غير المادي تتوارثه الأجيال جيلاً بعد جيل ، تبدعه الجماعات والمجموعات من جديد بصورة مستمرة بما يتفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة وتاريخها .
إذا نجحنا في أن نعرف أولادنا بتراثهم الثقافي فإننا نكون قد نجحنا في تنمية الإحساس لديهم بالانتماء والهوية والولاء ، نكون قد زرعنا فيهم احترام التنوع الثقافي أو التعددية الثقافية التي تولد القدرة الإبداعية عند البشرية جمعاء .
ومطلوب من مؤسساتنا الثقافية والعلمية والإعلامية والتعليمية أن تسعى إلى ضرورة عقد العديد من ورش العمل ، والمنتديات ، والملتقيات ، والندوات ، والمؤتمرات ، وإصدار النشرات والدوريات والمجلات التراثية ، وإنشاء المواقع على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) التي تهتم بالتراث وتعرف به وتعمل على التوعية بصيانته والمحافظة عليه ، أي أن الهدف من كل هذه الوسائل والآليات نشر التنوير والتثقيف حول أهمية حماية المواقع التاريخية والتراثية ، وليتنا نفعل ذلك بجدية والتزام بعيدًا عن الصخب الإعلامي الأجوف الذي يضرنا أكثر مما يفيدنا .
إن المحافظة على التراث الثقافي بجميع أصنافه ، والوعي به وتقديره ، يؤدي إلى الاحترام المتبادل بين الجماعات والمجموعات والأفراد ، وفي نفس الوقت يؤدي إلى التنمية المستدامة الشاملة التي نسعى إليها كل السعي لأنها مستقبلنا الحقيقي ، وذلك عن طريق الاهتمام بالحرف والصناعات اليدوية التقليدية التي اشتهرنا بها ولا عيب في أن نستفيد من تجارب الآخرين في هذا المجال ، استفادة حقيقية ، وكذلك تشجيع السياحة الخارجية والداخلية بأسلوب علمي واقعي سليم ، وليس بالأساليب التي عفا عليها الزمن وأكل وشرب ، فلنعرف أن هناك أساليب جديدة يدخل فيها علم النفس والعلاقات العامة وفن التفاوض وفن التسويق وفن الإقناع ووسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي بجميع أنواعها .
في اليوم العالمي للتراث نطالب الجميع بالعمل على حمايته واحترامه والنهوض به ، ولن يكون ذلك إلا عن طريق إعداد برامج تثقيفية محترمة للتوعية ونشر المعلومات الصحيحة السليمة والموجهة للجمهور بوجه عام ، والشباب المتعطش إلى المعرفة الجادة بوجه خاص .
مطلوب منا عمل العديد من البرامج التعليمية والتدريبية ، وتنفيذ العديد من الأنشطة الهادفة إلى تعزيز القدرات ، وكذلك الاهتمام بعلم الإدارة إدارة مواقع التراث الثقافي بمختلف أنواعها ، ووضع البحث العلمي في مكانته اللائقة به بحيث يستفيد تراثنا مما يتوصل إليه من نتائج .
نطالب باستخدام وسائل غير تقليدية أو غير نظامية لنقل المعارف المتعلقة بالتراث الثقافي لكافة الجماهير في كل مكان ، مع إعلام الجمهور بالأخطار التي يمكن أن تهدد هذا التراث إذ لم نصونه ونحافظ عليه ونحميه ، في نفس الوقت الذي يجب أن نعزز أنشطة التثقيف من أجل حماية الأماكن الطبيعية وأماكن الذاكرة الإنسانية بوجه عام .
وغني عن البيان في هذا الصدد أن هناك علم معروف الآن يسمى علم أمن الأماكن الأثرية ، والذي يستفيد من نظم الأمن والحماية الحديثة ، ونظم الإنذار ضد السرقة ، ومراقبة دخول الزوار وخروجهم بالكاميرات الحديثة أو أحدث أنظمة المراقبة عن طريق الفيديو ، وأنظمة كشف السرقات عن طريق الليزر ، وأنظمة كشف وإطفاء الحرائق ، وكذلك نظم الرصد البيئي .
وأخيرًا : نرجو أن نفيق ونستفيق إذا كنا بحق نريد المحافظة وحماية وصون ما تركه الأجداد لنا ، ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا عن طريق منظومة كاملة متكاملة يتشارك فيها الجميع ، فالأمر جد خطير ولا ينتظر التسويف أو التأجيل أو الإهمال أو التهريج أو الثرثرة الفارغة التي لا تجدي .
وكل عام وتراثنا الثقافي بخير وأمان وسلام ،،،
_________
باحث وخبير في التراث الثقافي