مَتَىَ يُعْلِنُونَ وَفَاةَ الجُغْرَافْيَا ؟



*الدكتور بليغ حمدي إسماعيل


خاص ( ثقافات )
هل أخطأ المفكر المصري جمال حمدان حينما وهب حياته وقلمه وسنوات عمره في سبيل الجغرافيا ؟ على مستوى التقييم الشخصي فإن جمال حمدان يعد ملمحاً حضارياً وثقافيا لمصر الباهرة في سنواتها النضرة ، ومن قبله كان أيضاً الجغرافي الموسوعي الدكتور محمد عوض الذي على حد اليقين لا يعرفه الطلاب المتخصصون في الجغرافيا اللهم من ألهمه الله بصيرة في التقاط اسم المؤلف على صدر كتابه .
ونتيجة التغافل الإعلامي بصحفه وقنواته الفراغية وشبكات التواصل الاجتماعي التي لا تخلو من صفحات عن الحب والغرام والنكات السخيفة وطبق اليوم لم يعد طالب الجامعة ولا المواطن يفطن من علم الجغرافيا سوى العبارة الاستثنائية في مسرحية العبقري فؤاد المهندس والمشهد الذي جمعه والفنان الملتزم جمال إسماعيل حينما أخطأ في نطق كلمة الجغرافيا بـ ” فنوغرافيا ” ، ومع ذلك استمرأ الإعلام ومؤسسات الثقافة بالجغرافيا وكأن ثمة عوامل تتضافر بشراهة واشتهاء عجيب في إعلان الموت الإكلينيكي للجغرافيا وفروعها .
(أ ) مَوْتُ الجُغْرَافيَا :
ولأن الجغرافيا هو أول دروس الهوية والوطنية التي تعلمناها منذ الصغر في المرحلة الابتدائية ، فإنه من الأحرى تنبيه الجغرافيين المصريين بطروحاتهم التنظيرية المكرورة بحقيقة قد تكون غير طيبة أخبارها ، وهي أن ثمة تحديات تزلزل عرش الجغرافيا المصرية لاسيما منذ السقوط الثقافي الذي أعقبه سقوط أخلاقي عقب الانتفاضة الشعبية في يناير 2011 أي منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير حينما تفرغ الشباب والشيوخ إلى تحليل المشهد السياسي وإسقاط كل ما بداخلنا من مركبات وعقد نفسية صوب الحراك السياسي الذي استمر حتى عزل الرئيس المعزول بإرادة شعبية وطنية في الثلاثين من يونيو 2013 .
هذا السقوط الثقافي الجغرافي تمثل في تقاعس الجغرافيين المصريين في تكريس وتعزيز الهوية الوطنية لدى الشباب عن طريق توجيه ولفت انتباههم نحو الأماكن التاريخية والجغرافية الساحرة في مصر المحروسة ، وكان ينبغي على أولئك المهتمين بعلم الجغرافيا والآثار والتاريخ أن يتبنوا مبادرة وطنية خالصة لوجه الله والوطن في تنمية الوعي الوطني وتعزيز الانتماء لمصر المحروسة وحضارتها الضاربة في عمق التاريخ . وماذا كان سيضرهم في الماضي أو في الأيام المقبلة لو أن أساتذة الجغرافيا بجامعاتنا المصرية قاموا بتدشين مبادرة عنوانها اعرف بلدك لتكتشف انتماءك ، تقوم هذه المبادرة قبل أن تسقط الجغرافيا سقوطها الأخير بغير قيام في الترويج للأماكن التاريخية كالمتاحف والمعابد والقرى التاريخية الساحرة المنتشرة في كافة ربوع مصر ، والمحميات الطبيعية التي تزيد وتعمق من إيماننا بقدرة الخالق سبحانه وتعالى والإيمان بإبداعه لأنه بحق البديع . 
وربما مصطلح ” وفاة الجغرافيا ” لم يكن جديداً على المشهد الثقافي ، فلقد تنبأ البعض بهذه الوفاة الاضطرارية ، تحديداً حينما زعم توفلر في سنة 1970 في كتابه ” صدمة المستقبل ” حيث قال إن تطور تكنولوجيا النقل والمواصلات ونمو الميديا المعرفية وتدفق الأشخاص المكثف أدى إلى نتيجة وهي أن المكان لم يعد مصدراً رئيساً وأساسياً للتنوع ، وهو ما يهدم المزية التاريخية لعلم الجغرافيا وهي المكان ، فالجغرافيا هي إنسانية المكان . وبفضل الثورة المعلوماتية والتطور التكنولوجي والتثوير الاقتصادي الذي عرف بعد ذلك بمصطلح العولمة والاقتصاد الحر تم اعتبار الجغرافيا حقلاً معرفياً وتنظيرياً فقط ، بل إن الجغرافيين اليوم وتحديداً منذ نكسة يونيو 1967 فشلوا في تحديد دور إيجابي لهم يربطهم بالمكان والحجم والموقع لأنهم باختصار أجهدوا أنفسهم في تحليلات وطروحات فكرية وصاروا رهن ما تنبئهم به الخريطة التي لم تعد كما كانت . وبعدما كانت الجغرافيا خريطة سهلة واضحة المعالم أصبحت اليوم بفضل التدفق البشري والتغيير الثقافي المرتبط بالسلع والمنتجات جغرافيات جديدة ومعقدة يصعب فهمها وتحليلها . 
ويبدو أن جغرافي مصر قد اغرورقوا حتى الثمالة في جغرافيتهم السياسية التي لم يتعد لها مكان اليوم لأنهم باختصار أعني وأقصد كتاباتهم وليس شخصهم الكريم فقدوا السيطرة على ترويض غول العولمة الذي استطاع بكفاءة أن يسقط الخريطة ويودي بحياتها اللهم سوى وجودها على استحياء في كتب الدراسات الاجتماعية بالمرحلة الابتدائية ، وجعلوا اهتمامهم داخل المحاضرات إن اهتموا بالذكر أو من خلال كتاباتهم الصحافية بمناهضة العولمة ، والأخيرة دوما في صراع ضد العقل الذي لا يعترف بالقوميات أو بالهويات الوطنية بقدر ما يسمح بالتعدد والتنوع الثقافي المرتبط بالناحية الاقتصادية فحسب . 
وتجئ هذه السطور بسبب زيارة أعدها تاريخية على المستوى الشخصي لأنها أعادت اكتشاف إنسانيتي لكافة المناطق السياحية والأثرية التاريخية بمحافظات قنا والأقصر وأسوان بمشاركة طلاب من جميع الجامعات المصرية ، واكتشفت والطلاب هذا الأثير الطاغي الذي تخلل أنسجتنا الوطنية ونحن نتفقد حضارتنا المصرية الساحرة والقاهرة والشاهدة على أن وطنا كمصر يستطيع أن يتغلب على جميع مشكلاته المعاصرة ،وليس بمقدور كيان صغير أو دويلات فقيرة التاريخ والأصل والنسب أن تتغلب على مصر وطنا وشعب عن طريق حملات دعائية مستخدمة فيها الإعلام المشبوه والمشوه . وقررنا جميعا عندما نعود أن يستغل كل منا هذه الطاقة الإيجابية التي اكتسبناها من خلال زيارة متحف النوبة ومعبد دندرة وفيلة والكرنك والبر الغربي وحتشبسوت وغيرها من المناطق الرائدة في الترويج لمصر وتعميق الرؤية الوطنية لدى شبابنا ، فإذا كانت الجغرافيا في طريقها إلى الوفاة الإكلينيكية إلا إذا استفاقت لدورها وتاريخها ، فنحن بحاجة إلى علم جغرافي شعبي جديد يمكننا من مناهضة فتور الانتماء الوطني وفقر الوعي الحضاري لمكانة مصر العظيمة عن طريق توجيه مستمر لأهمية هذه المزارات وتاريخها وأن وجود الشباب في هذه البقعة الجغرافية الساحرة المسماة بمصر كفيل بأن يستطيعوا الوصول إلى عنان التقدم وارتياد منصات التتويج الثقافي والحضاري. 
والملمح الأكثر حضورا ونحن ننعي حال الجغرافيا في تكريس وتعزيز الانتماء الوطني والوعي القومي هو أن جهات بعينها داخلية وخارجية تسعى إلى تقويض الهوية المصرية، وتسعى في الخريطة فساداً وخراباً لطمس ملامحها الأزلية تحديداً تلك الملامح التي تتعلق بحقنا الأصيل في الحصوصل على ترتيب الأول حضاريا وثقافيا لما نمتلكه من مظاهر وأماكن وصفات استثنائية . وبحق ، فإن الجغرافيا ستموت إذا ما انصرف الجغرافيون عنها واهتموا بالدراسات الاجتماعية أو السيسيولوجية واعتمدوا على الدراسات الاجتماعية الاقتصادية وغفلوا عن مجالهم الصحيح والحيوي هذه الأيام وهو تدعيم الانتماء الوطني لدى الشباب . 
ويكفيك أن تهتم على عجلٍ بتصفح كتاب Geographies of Globalization للأكاديمي النيوزلندي ورويك موراي المنشور في نسخته العربية في العام(2013) والذي تناول العلاقة بين الجغرافيا والعولمة ، وهذا الكتاب صال وجال للبحث عن إجابة حصرية وحاسمة لسؤال : هل ماتت الجغرافيا ؟ ، وفي هذا الكتاب رصد حالة انخفاص الصلة بين علم الجغرافيا الأكاديمي والمحبوس في الكتب التنظيرية الجافة والأبحاث والدراسات الكاذبة التي لا تمت للواقع بصلة وبين العولمة التي تتصاعد حدتها ويتعالى نشاطها الاقتصادي والتنويري والاقتصادي ، ومدى انحسار وفتور الوعي الوطني لدى الأمم نتيجة استغراق معظم الشباب في اللهاث وراء كل غريب ووافد وأجنبي. ولا شك أن الكتاب انتهى بنتائج غير سارة بالنسبة للجغرافية ومستقبلها المعاصر .
واليوم وفي ظل المحاولات والمساجلات المحمومة والمريضة الموجهة صوب مصر من أجل إبعادها عن دورها الريادي في المنطقة والعالم فإن الجغرافيا دورها اليوم بات ضروريا وملحاً ، وعلى الجغرافيين اليوم أن يجتمعوا على هدف واحد ومهمة وطنية محددة وهي تنمية الوعي الحضاري وتعزيز الانتماء الوطني لدى شباب هذه الأمة . 
(ب ) جمال حمدان .. فارس المكان وبوصلة عشق الوطن:
إنه جمال حمدان ، باختصار لا يشوبه التقصير وباختزال لا يتعريه طول التفسير هو فارس المكان ، وهو البوصلة القادرة على التحشيد بغير انتفاضات شعبية نحو عشق الوطن وافتراس تفاصيله الجميلة بجنون ، جمال حمدان حينما نتكلم عنه فإننا لا شعورياً نتجه باتجاه الوطن ونلامس أراضيه، وتأبى اللغة أن تتحدث عنه بلغة نثرية علمية جافة بل تجبرنا كتاباته ومسيرة حياته أن نتخلى ولو نسبياً عن جفاف اللغة العلمية ونلجأ إلى اللغة الشاعرية التي بحق تناسب مقامه ومكانته وتوازي عشقنا وعشقه للوطن.
والمدهش أن قراءتنا بغير تأويل أو عقد نقدية تجرنا لمساحات بعيدة عن الوطن ، لكتابات المفكر الجغرافي الدكتور جمال حمدان هي قوة إجبارية تفرض علينا التفكير في واقعنا المصري المتسارع سياسياً والبطئ نحو النهضة والارتقاء ، فجمال حمدان من خلال ما سطره من كتابات مثل الموسوعة العبقرية شخصية مصر ، والقاهرة ، والعالم الإسلامي المعاصر ، واستراتيجية الاستعمار والتحرير، وكتابه المتميز عن اليهود كلها تؤكد أولاً نظرته العميقة للمستقبل وكأن ما سطره كان أشبه بصيحات التحذير لما نحن فيه الآن من أزمات ومثالب سياسية واجتماعية.
فمكانة مصر التاريخية والاستراتيجية الراهنة تجدها في هذه الكتابات المتميزة ، التحذير من فوضى التعصب والتطرف تلمسها في سطور متناثرة خطها بقلمه حينما تحدث عن وسطية هذا الوطن العظيم ، فهو يقرر أن مصر لموقعها الجغرافي المتوسط بين قارات العالم اتخذت لها موضعاً أكثر وسطية ، ونجحت بالفعل لسنوات بعيدة أن تحافظ على هذه الخصوصية التي تحتوي متناقضات ومتضادات عجيبة في صورة أعجب وأبلغ ، وإذا استقرأنا مهاد مصر لاكتشفنا أنها لم تعرف أبداً طوال تاريخها الضارب في القدم أنصاف الحلول أو المغالاة في التمايز لطرف في أقصى اليمين أو أقصى اليسار ، بل كانت وسطاً دائماً في النظرة والتفكير والاختيار ، وربما هذه الوسطية هي التي أفرزت لنا قاماتنا الفكرية بتعددها الأيديولوجي كالشيخ محمد عبده وطه حسين والعقاد وسلامة موسى وزكي نجيب محمود وغيرهم مما تحفظهم الذاكرة .
كما يشير عبقري المكان الدكتور جمال حمدان إلى أن هذه الوسطية التي تميزت بها مصر حفظت لها وحدتها السياسية ، مع وجود مساحات متفاوتة زمنيا من الجدال السياسي لا كالذي نشاهده ليل نهار إما في برلمان المرجعية الدينية المنحل، أو في برامج الفضائيات المكرورة التي توصف دوماً بأنها فراغية الجوهر ،كالفراغ الذي الذي لا حيز له ونحترف في إهداره بمهارة فائقة تشبه إضراباتنا واعتصاماتنا ومليونياتنا الثورية التي تصيب جسد هذا الوطن بسهام نافذة مميتة .
وثمة كتابات نجدها مطروحة تفتش عن ذكريات أكاديمية للدكتور جمال حمدان ، وأخرى تتناول كيف كان يعيش في قرية ” ناي ” مسقط رأسه بمحافظة القليوبية ، ومدرسته الابتدائية بشبرا حينما انتقل مع والده معلم اللغة العربية وغير ذلك من القصص التي تشبه رواية الأيام للتنويري المفكر المجدد الدكتور طه حسين ، رغم أنه من الأحرى التأكيد على صياغاته الفكرية عن مصر وتحليلاته التنظيرية التي تؤكد عمق هذا الوطن الضارب في التاريخ بقوة ، والتي تدفع الناشئة والكبار أيضاً إلى زيادة الوعي بماضي هذه الأمة ومن ثم زيادة التوعية والانتباه بمستقبلها الذي بدا بعض الشئ مترنحاً وغامضاً في ظل هذا التصارع السياسي على إسقاط مصر وهي في حقيقة الأمر وطن صعب مراسه. 
فجمال حمدان يؤكد في مجمل أعماله ويقرر أن مصر محكوم عليها بالعروبة والزعامة ، وأن من قدرها أن تكون رأس العالم العربي ، وقلبه ، وضابط إيقاعه ، وفي هذا الصدد يقر حقيقة بالغة الأهمية في ظل ظروفنا السياسية الراهنة وهي أن مصر أكثر من عضو ضخم في الجسد العربي ، بل هي رأسه المؤثر ، وجهازه العصبي المركزي الفعال والنشط والمحرك. ولم ينس العبقري جمال حمدان مرحلة أكتوبر بانتصاراتها المجيدة فنجده يعتبر مصر أكتوبر دليلاً قاطعاً على الشعب المحارب ، وتكذيباً دامغاً لنظرية الشعب غير المحارب. 
ورغم هذا العشق المستدام الذي يربط الدكتور جمال حمدان بمصر وطناً ومكاناً متميزاً ، نجده شديد التأثر مرارة وحزناً بواقع مصر أيامه والتي تتشابه كثيراً مع واقعنا الراهن المحموم والمستعر غضباً واحتجاجاً ، فهو يرى ـ في وقته ـ أن مصر بحاجة ماسة إلى إعادة التفكير وإطالة النظر بعمق وتدبر في كيانها وهويتها ومصيرها ، وهذا يدفعنا للتأكيد على أن مصر بعمقها وحضارتها وتاريخها وطن يصعب مراسه وتطويعه ولي ذراعه بتيارات وأفكار تسعى إلى إجهاض تنويره واستنارته ، فإن هذا يتطلب مزيداً من العمل الدءوب بشأن تثوير الطاقات المنتجة ، والعقول الأكثر إنتاجاً ، وهذا لا ولن يتحقق إلا من خلال منطلقات ومرتكزات ثابتة نسبياً تشترك في إطلاقها مجموعة من المؤسسات الرسمية والمدنية وبعض الفئات المنوطة بتطوير هذا الوطن ومنتسبيه. 
فهذا مواطن عليه أن يغير نظرته لذاته من شخصية سلبية مقهورة إلى أخرى أكثر إيجابية نشطة ، يشارك ويمارس نشاطات مواطنته في وطن هو أحد مؤسسيه ، وهذا نظام تعليمي عليه أن يستفيق قليلاً من سبات عميق ، ويدرك أن عليه مهاماً جساماً تقتضي منه اليقظة المستدامة في مستويات إعداد المعلم ، وأطر المناهج الدراسية ، وتنشئة الطالب ، إن كان يريد هذا النظام التعليمي أن يصبح مشاركاً فعالاً في صحوة هذا الوطن. 
أما المؤسسات الرسمية أعني الدينية منها ، فإن دورها الذي اقتصر في الماضي على معالجة الأزمات الطائفية ، والظهور الإعلامي في مناسبات قمع الفتنة لابد وأن ينحسر تدريجياً ، فالدور الحقيقي لها على مستوى الشراكة الوطنية هو قراءة المشهد الثقافي والمجتمعي للشارع المصري الذي يموج بتيارات وأفكار لا طاقة لنا بها هنا ، ومن ثم تجهيز العقلية المصرية لمواجهة بوادر أية فتنة من الممكن وقوعها. وما أحوجنا إلى تثقيف بعض أئمتنا لاسيما الموجودين بالزوايا الريفية ببعض الدروس القيمة المنثورة بكتب التراث الإسلامي ومنها ما خطه ابن الأزرق في كتابه بدائع السلك حينما ذكر ما عاهد عليه الفاروق عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) نصارى الشام ، ومنه ما كتبه راعي الكنيسة إلى عمر فيما معناه أن لا يمنع كنائس الشام أن ينزلها أحد المسلمين ، هذا في الزمن الجميل التي كانت دور العبادة ملاذاً ومكاناً يسع الجميع. 
ومنه أيضاً ما ينبغي التأكيد عليه في مدارسنا ومساجدنا بأن بر أهل الذمة مأذون فيه لقوله تعالى ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) . وليت بعض أئمتنا المنتشرين فوق منابر اعتلاها يوما رسولنا الكريم ( عليه والصلاة والسلام ) يفطنون إلى تفسير المقري لهذه الآية حينما قال إن هذا البر مأذون فيه ، ويقصد به التقرب والإحسان ، وهو مستحب جائز ، والإقساط هو العدل الواجب فيهم ، وهو مستحق واجب.
وها هو عبقري المكان جمال حمدان أو كما يصفه الدكتور محمد عبد الرحمن الشرنوبي بعاشق تراب مصر يكتب عن الخصية المصرية وكأنه يقرأ المستقبل ويستشرفه ، وهي قراءة ملؤها الشجاعة في وقت نرى الشجاعة فيها مجرد أصوات عالية وصراخ غير منقطع وممارسات سياسية تستهدف تقويض الوطن ذاته ، لكنه في قراءته للوطن مكاناً لم يغفل عن قراءة مرتكزات ومقدرات الوطن البشرية من سكان ، ذلك حينما أشار إلى أن الشخصية المصرية تستغل فقط تاريخها حينما تواجه عدواً خارجياً لكنه من الأحرى استغلال والإفادة من هذا الإرث التاريخي في النهوض بالبلاد وفي استثارة عزائمنا الفاترة وفي إدراك مكانتنا والوعي بها باستمرارية بغير انقطاع أو تغييب عمدي ومقصود.
وهو يعمد دائماً إلى استنهاض الطاقات ويحذر من خطر الهروب من الحاضر إلى الماضي ، ويشبه هذا الهروب بالمخدرات التاريخية التي تجعلنا أكثر عرضة للافتراس الذاتي لأننا نكون قد تخلينا عن مواجهة الحاضر بإحداثياته ومتغيراته المتسارعة.وليتنا نخجل من أنفسنا ونحن نعيد قراءة الطروحات الفكرية الجغرافية للعبقري جمال حمدان لاسيما وهو يصر على جعل مصر سيدة الحلول الوسطى وملكة الحد الأوسط ، وهي أمة وسط بكل معنى الكلمة ، بكل معنى الوسط الذهبي ، وليست أمة نصفاً ، ومصر جغرافياً وتاريخياً تطبيق عملي لمعادلة هيجل تجمع بين التقرير والنقيض في تركيب متزن أصيل .
وختاماً لا أملك القول سوى كلمات هذا العبقري في موسوعته الجغرافية والثقافية الفريدة ” شخصية مصر” : إننا كلما أمعنا تحليل شخصية مصر وتعمقناها استحال علينا أن نتحاشى هذا الانتهاء ، وهي أنها فلتة جغرافية لا تتكرر في أي ركن من أركان العالم ، فالمكان ، الجغرافيا كالتاريخ لا يعيد نفسه أو تعيد نفسها ، تلك هي حقيقة عبقريتها الإقليمية.
____________
مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية 
كلية التربية ـ جامعة المنيا

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *