الجرم العادي والبطولات العادية


نوف سعيد


لا أظن أن بوسعنا الآن الحديث عن صراع بين الخير والشر، كل ما يمكننا الحديث عنه هو الصراع بين الخير والخير. حيث لا يوجد إلا خيارات الإنسان المحكومة بالظروف. ليس الهدف من هذا النوع من المعالجة نزع صفة المسؤولية الأخلاقية عن أفعال الإنسان، ولكنها سعي لفهمه أولا، وللتخفيف عنه، إذ هو – على عكس ما كان يقول الفلاسفة القدامى – صالح بالفطرة، أو ربما هذا ما نريد أن نصدقه.
حنة آرنت فيلسوفة ومنظرة سياسية من أصل ألماني، رُحّلت إلى خارج ألمانيا في أيام الحكم النازي، وعاشت في أمريكا كلاجئة دون اعتراف قانوني. وجدت آرنت في أمريكا «الفردوس» وقد عملت هناك كأستاذة جامعية. ألفت في حياتها كتب سياسية وفكرية مهمة مثل: أسس الشمولية، مقالات في الفهم، الوضع الإنساني، بين الماضي والمستقبل، في الثورة، حياة الفكر.
أما عن الفيلم الذي أتحدث عنه والذي يتناول جزءا من سيرة حياتها فهو للمخرجة الألمانية مارجريت فون تروتا. المخرجة «تنتمي إلى حركة السينما الألمانية الجديدة، وقد بدأت حياتها كممثلة قبل أن تهتم بأفلام تتناول حياة نساء مشهورات.. فقد سبق لها أن تناولت سيرة الفيلسوفة الماركسية روزا لوكسمبورج في فيلم حمل اسمها أنتج منتصف الثمانينات، وكذلك في فيلم تناول سيرة الراهبة هيلدجارد فون بينجين الكاتبة الكاتبة الألمانية والموسيقية والفيلسوفة في فيلم حمل عنوان «رؤية»، والفيلمين مع الممثلة باربارا سوكوا» نفسها.

محاكمة أدولف آيخمان

أدولف آيخمان: أحد المسؤولين أيام حكم هتلر. وقد اتهم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بإبادة اليهود في معسكرات الاعتقال، فما كان منه إلا أن يهرب سرا. ظل آيخمان هاربا ولجأ لعدة دول إلى أن استقر أخيرا في الارجنتين تحت هوية مزورة. تم القبض عليه في إحدى ضواحي بيونس آيرس عام 1960 وحُكم في إسرائيل. وُجهت إلى آيخمان خمسة عشر تهمة من بينها: اقتراف جرائم ضد الشعب اليهودي، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية. فيما كان يطالب الدفاع بالبراءة باعتبار «أنه وفق المنظومة القضائية النازية لم يقترف أي فعلة؛ وأن التهمة الموجهة له ليست جرائم، وإنما «إجراءات دولة» لا يمكن أن تخضع لأي دولة أخرى؛ وأنه كان من واجبه أن يمتثل وأنه … اقترف أفعالا قد تحصلون مقابلها على أوسمة إن كنتم من المنتصرين»
وكانت مجلة النيويوركر قد كلفت آرنت بتغطية محاكمة آيخمان في إسرائيل. وخرجت من ذلك برأي مثّل صدمة للوسط الثقافي، حيث كان يتوقع منها (باعتبارها من أصل يهودي) أن ترى في آيخمان ما كان يراه جميع اليهود – أي المجرم المعادي للسامية الذي يستحق أشد العقاب. بينما لم تجده آرنت إلا رجلا عاديا. كلفتها معركة الرأي هذه خسارة الكثير من أصدقائها (حتى بعض المقربين منها). فهي لم ترَ في آيخمان سوى رجل تنفيذي كان يقوم بأداء الأوامر دون الاحتكام إلى ضميره فهو لم يكن أكثر من «مجرد ترس في الآلة الإدارية». ترى حنة آرنت أن إسرائيل كانت تسعى لشيطنة أدولف آيخمان ربما لأهداف سياسية من وراء المحاكمة « لا سيما أنها أُجريت في وقت كان بن غوريون يسعى فيه إلى الحصول على المزيد من التعويضات المالية من ألمانيا الغربية.» وبرأي آرنت لم يكن آيخمان وحشيا لقد كان ببساطة موظف ينفذ الأوامر، فمحاكمته إذا «ليست عادلة… لأنها لم تحاكم ايخمان كفرد، وإنما حاكمته على تاريخ لم يكن سوى موظف فيه» إذ أن هناك فرق بين المسؤولية الإجرامية التي تلقى على فرد معين، والمسؤولية السياسية التي يتحملها كل أفراد النظام وإن لم يتورطوا شخصيا في الجرم.
التداخل بين اللاهوت والفلسفة في الثقافة الغربية، جعل الفلاسفة يعتقدون بمقولة «الشر الجذري» أي أن الشر شيء متأصل في الإنسان الذي بدأ حياته بالخطيئة. حتى وإن كان الإنسان مخيرا بين الخير والشر بما أعطي من حرية إلا أن للشر أساسا كامنا في الإنسان. التأمل في قضية آيخمان قاد حنا آرنت إلى الانقلاب على الرأي الفلسفي القائل بالشر الجذري لتدشن مفهومها الخاص عن الشر.. الشر التافه. حيث يُفعل على أيدي أناس عاديين.


الموقف يبدو معكوسا تماما في حال «الرجل الذي أنقذ العالم» حيث يحرز الرجل البطولة لمجرد أنه كان دقيقا في أداء واجبه. يحكي الفيلم الوثائقي «The Man Who Saved the World» (إنتاج 2014، إخراج: بيتر انطوني Peter Anthony) عن الضابط ستانيسلاف بيتروف الذي كان مخولا بإطلاق الصواريخ النووية الروسية في حال انطلق الإنذار الذي يعلن إطلاق أمريكا صواريخها، ورغم أن الأقمار الاصطناعية أرسلت معلوماتها التي تفيد حدوث ذلك إلا أن بيتروف رفض الرد كما يُفترض به أن يفعل، إن هذه الخطوة جنبت العالم حربا نووية. وبالرغم من أن الإعلام يُظهر الرجل كبطل واعٍ بتبعات فعله البطولي إلا أنه يقول عن الموقف ببساطة: «لم يكن لدي الوقت للتفكير في ما اذا كنت سأطلق حرباً عالمية ثالثة. كان علي ان اقرر مدى صدقية المعلومات التي ارسلها الحاسوب فحسب».


حول الفيلم:
«فيلم دراما ألماني، صدر عام ٢٠١٢، من بطولة باربرا زوكوفا Barbara Sukowa، جانيت ماكتر Janet McTeer، جوليا جنتيش Julia Jentsch، وإخراج مارجريت فون تروتا Margarethe von Trotta. الفيلم حصل على خمس جوائز دولية، كما ترشح لثلاثة عشر جائزة أخرى.»
يتطرق الفيلم لعلاقتها العاطفية بمارتن هيدجر الذي كان معلمها أثناء دراستها الفلسفة، استمرت علاقتهما العاطفية (حسب ما تبين الرسائل المتبادلة بينهما) من العام 1925 إلى 1930، واستمرا كأصدقاء يتبادلان الرسائل حتى 1975، وبالمناسبة فرسائلهما التي تتناول الحب والفكر والحياة متاحة ومترجمة إلى العربية.
من الملاحظات التي وجهت للفيلم اعتماده على الحوارات، حيث كانت الوسيلة الوحيدة الممكنة لإيصال الفكرة، لكني أتفق مع الرأي القائل بأن أداء البطلة التي نجحت عبر انفعالتها المتقنة في إظهار حيوية التفكير لآرنت، هذا الأداء خفف من ثقل الحوارات.
_______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *