*أدونيس
1 –
تلك الشجرة ـ لم تترك أيّة وصيّة.
هكذا وَرِثَتها الريح.
– 2 –
سنابلُ كمثل المناديلِ تلوِّح بها الحقولُ لكي تحيّي شيخوخةَ الأفق.
كان الليلُ يفرشُ سريرَه لعاشقهِ ولتلك النّجمة التي تقرع بابَه، آملاً أن تهدأ وترقدَ بضعَ ساعاتٍ بين ذراعيه، قبل الوداع الأخير.
-3 –
«من زمنٍ تمّتْ الوحدة، عندهم، بين الكلام والحُطام.
بدءاً من ذلك، أخذَت تنشأ عندهم مشكلة كتابيّة، عصيّة على الحلّ، كما يبدو.
خلاصةُ هذه المشكلة أنّ الأشياءَ التي يكتبون عنها، ليسوا هم الذين يتحدّثون معها ويكتبونها، وإنّما هي نفسُها التي تبادرُ: تتحدّث معهم، وتملي عليهم ما تشاء، وتكتُبُهم هي نفسُها، غالباً».
أصغيتُ إلى الصّديق الذي كان يقصّ عليّ ذلك، فيما كنتُ أتصفّحُ المعجمَ العربيَّ «لسان العرَب»، بحثاً عن كلمة، وشعرتُ كأنّ الكلمات تشهق وتزفر وتبكي بين عينيّ.
– 4 –
في المُخَطَّط الأوّل لما يُسمَّى الواقع، يدهشُكَ السّطرُ الأخير في المخطَّط الأخير لما يُسمّى الخيال.
ربّما ليس هنا، أو هناك، أو هنالك، إلاّ واقعٌ واحدٌ اسمُه التوهُّم.
من يتوهّم، إذاً، أنّ هذا الشّرقَ العربيّ، سليلَ ألفِ ليلةٍ وليلةٍ، يموت؟
ومَن يجهل، إذاً، أنّ الحياةَ لا تفنى وإنّما تغيِّر ثوبها: لها ثيابٌ خاصّةٌ على الأرض، وثيابٌ أخرى خاصّةٌ في السّماء.
ومَن يجهلُ أنّ السّعادةَ ليست إلاّ جاريةً جميلةً في الحياة، وفي ما بعدها؟
العذابُ نفسُه سعادةٌ أخرى. ذلك أنّه كمثل الحياة لا يفنى ما دام الإنسانُ موجوداً.
ومَن يجهل، على الأخصّ، أنّ الموتَ هو، في شكلٍ أو آخر، الحيّ على هذه الأرض، وأنّ العذابَ ليس رفيق الإنسانِ فيها هي، وحدها، وإنّما رفيقه كذلك في السّماء؟
ربّما لذلك يبدو التعذيبُ والنّفْيُ والقتلُ والتدميرُ والتهجير إلى جانب الأعياد والأعراس والولائم والغناء والرقص، أشياء أليفة يعيش البشر معها كلّ يوم، كأنّهم يكوِّنون معها عائلة واحدة.
– 5 –
استطراداً لواقع التوهّم أو لتوهّم الواقع، يطيب لي أن أرويَ هذه الحكاية ـ الواقعة:
«كنتُ في بيت الخريف، عندما كان يستقبلُ صديقه الصّيف. كان ينظر إليَّ عندما خلع عباءتَه، احتفاءً به. غيرَ أنّه، فجأةً، قدّم لي العباءةَ هامساً:
هذه هديّةٌ لك. أرجو أن تقبلها وتلبسها الآن في حضرة هذا الضّيف.
عندما خرجت من بيت الخريف إلى المدينة، رأيت أشخاصاً كثراً عائدين من عصورهم التي ماتوا فيها. خصوصاً في القرون الأولى من تاريخنا. كنت أراهم، أينما سرتُ في شوارع المدينة، أسير إلى جانب بعضهم، وأصغي إليهم، وأرى كيف يبتسمون ويتبادلون التحيات مع المارّة.
لكن يدهشني في هذا الأمر كلّه، أنّني تردّدتُ في أن أطرح أيّ سؤالٍ على أيٍّ منهم. ألأنّني لم أشاهدْ بينهم أيّة امرأة؟ ربّما.
– 6 –
يُقال: ليس للهواء بيت.
هل يمكن أن يُقال، قياساً: ليس للكلمة أبٌ، وليس للقاعدة قاعدة؟
– 7 –
سارتِ القدمُ على الماء،
بينما كان الرّأس يغوصُ في موجِ النّرد.
– 8 –
إنّها الطّريقُ إيّاها،
تُشِعُّ باحتمالاتٍ كثيرة.
مثلاً: فينيقُ، الطائرُ الشّيخُ ـ الفتيُّ، آخِذٌ في ابتكار فتيلٍ جديدٍ لقنديل الأرض.
وها هو العصرُ إيّاه،
يستحمُّ في بيت جارته. يتمرأى، ويغنّي متسائلاً:
ـ من أجلِ مَنْ، ولماذا يسقط هذا المطر؟
– 9 –
«الإنسانُ لا شيء»: يقول بعضُهم.
ويردُّ بعضٌ آخر:
«هذا «اللاشيء» هو، وحده، بين الكائنات، القادرُ على ابتكار جميع الأشياء».
هكذا يسألُ بعضُهم:
ـ «ما معنى الإنسان، إذاً؟».
ويجيبُ بعضُهم:
ـ «هو أن يكون دائماً أكثرَ ممّا هو: في صراعٍ متواصلٍ من أجل أن يتخطّى نفسَه باستمرار».
– 10 –
ـ قلت لك وأكرّر:
«إنّه الكاتب المُعاصر،
يطيرُ داخلَ كلماته، في عملٍ مادّتُه الغبار».
ـ ما أشدَّ قَسْوتَك، لكن ما أحَدَّ بصرَك.
تخيّلْ، إذاً، والحالةُ هذه، أنّ لك يداً إلكترونيّة هي التي تسيِّرُ يدَك الثانية الطبيعيّة. وأجِبني عن هذا السّؤال:
ـ إلى أيّةِ يدٍ ينتمي قلبُك؟ هل يوزِّع نبضاته بينهما؟ كيف؟ ربّما سيكون سبّاقاً: يرقد هانئاً صامتاً في كفَنٍ متحرِّكٍ من الحرير الاصطناعيّ.
ـ أصارحُكَ، أيُّها السّائلُ، أنّك لم تفهمْ شيئاً بعد ممّا أنبأَنا به الإلهام الإلكترونيّ. وأنصحُك، إذاً، أن تتنفّس عميقاً، وترقصَ طرباً.
هوذا خيطٌ شمسيٌّ في شكل مثلّثٍ يفتح لك ذراعَيه.
– 11 –
يبْعَثُ الشّعورَ بالغبطةِ،
ذلك الهاجِسُ الذي يرجُّ خطواتِ هذا الفجر،
بعد أن رجَّ رأسَه وصدرَه.
– 12 –
شمسٌ ـ
لا أستطيع أن أنسبها إلى أيّ فصْلٍ من فصولِ السّنة.
– 13
خدوشٌ في ركبة غيمةٍ عابرة،
تصارَعَت مع المطر الذي يسحُّ منها، غصباً عنها، فيما كانت السّماء
تَكْتَرِشُ بخبز يابس.
– 14 –
على سجّادةٍ باذخةٍ من رمْلٍ بعمر التّاريخ
نامَتْ سحابةُ المعنى،
وظنّي أنّها لا تحبُّ أن تَسْتَيقظ.
_________
*الحياة