لقد مات بايرون .. !!




*د . يسري عبد الغني عبد الله


خاص ( ثقافات )
” لقد مات بايرون ” ، كان ألفريد تنيسون الشاعر المعروف صبيًا في الخامسة عشرة ، عندما انطلق عدوًا إلى إحدى الغابات ، وكتب هذه الكلمات الثلاث فوق إحدى الصخور بعد علمه بوفاة بايرون في اليونان ، كان ذلك في شهر مايو من عام 1824م ، وكانت صحف ذلك الوقت قد كتبت تقول : إن خبر وفاة بايرون هز لندن كالزلزال ، كان كل فرد يشعر بأن نورًا ساطعًا قد خبا ، وكتب توماس كارليل الكاتب المعروف يقول : إن بايرون كان أنبل من عرفته أوربا ، وأنه يشعر كأنه فقد أخًا .
تُرى : ما هو السر الذي جعل إنجلترا تصعق لوفاة شاب لم يجاوز السادسة والثلاثين من عمره ، اضطر لمغادرة إنجلترا منذ ثماني سنوات ، لأن سلوكه أصاب المجتمع الإنجليزي بصدمة ، فاضطر لمغادرة البلاد إلى غير رجعة ؟ ، وما هو سر اهتمام الناس به اليوم ؟.
إن الأسباب عديدة ، منها جماله الشخصي ، ومولده النبيل ، وعظمة موهبته الشعرية ، وكرهه للظلم والكذب والشعوذة ، وشجاعته ، وذكاؤه ، وسرعة بديهته ، واستعداده للتضحية بحياته من أجل الضعفاء والمظلومين .
كان بايرون ثائرًا في عصره ، وكانت أشعاره وخطاباته تهاجم غباء العالم الذي يعيش فيه هجومًا مليئًا بالقسوة والمرارة ، ويعتبر بايرون إلى يومنا هذا واحدًا من أحسن الشعراء الإنجليز الرومانسيين ، وواحدًا من تلك الطائفة من الأدباء الإنجليز التي تضم ووردزورث ، وشيللي ، وكيتس .
هجرة شايلد هارولد : 
في جزيرة البيون كان يسكن شاب 
لم يكن للفضيلة ميولاً كافية 
أمضى حياته في فوضى غير لائقة 
وأغضب بتهكمه آذان الليل الناعسة 
يا له من شخص لا يستحي من الملاطفة 
وينهمك في حب الشهوات 
وقلما اهتم بما يدور حوله 
فيما عدا النساء والصحبة الحسية 
ويتفوق على شاربي الأنخاب كبيرهم وصغيرهم 
هذه القطعة الشعرية جزء من افتتاحية قصيدة ” هجرة شايلد هارولد ـ النبيل هارولد ” ، التي نشرت في شهر فبراير عام 1812 م ، وبايرون لا يزال في الرابعة والعشرين من عمره ، كان نجاحها مدويًا ، وكان كل فرد في العاصمة الإنجليزية لندن يود لو يرى المؤلف الشاب الذي كتب تلك المقطوعة الشعرية الرائعة ، وقد كتب بايرون يقول : ” لقد استيقظت ذات صباح فوجدت نفسي مشهورًا ” !! 
كان بايرون في ذلك الوقت شابًا معتزًا بنفسه خجولاً ، وإن كان قد ولد بقدمه اليمنى مشوهة ، كان قد عاد لتوه من رحلة استغرقت قرابة عامين ، تجول خلالهما في أسبانيا ، وألبانيا ، واليونان ، وتركيا ، وفي خلال تلك الرحلة بدأ بايرون يكتب قصيدته ، كان هو نفسه البطل الشهم الذي يشعر بالوحدة ، كان اسمه من قبل شايلد بورون ، وكانت تلك الرحلة هي هجرته إلى بلاد غريبة مليئة بالأخطار .
ولشد ما سر المجتمع الراقي في لندن ، أن المؤلف كان بنفس الدرجة من الشهامة التي وصفتها القصيدة ، كان الجميع مبهورين بجماله ونبل محتده ، وكان شعره بنيًا داكنًا مجعدًا ، وعيناه رماديتين ساهمتين برموش داكنة ، أما بشرته فكانت شديدة البياض ، وملامحه تامة الانسجام ، حتى ليخيل للناظر إليها أنها قد نحتت من أنقى الرخام الأبيض ، وكان العرج الذي تسببه له قدمه اليمنى ، وتعاليه المشوب بالحزن والاكتئاب ، من بين العوامل التي ضاعفت من جاذبيته ، ولا سيما للنساء .
كان هذا هو بايرون الشاعر الإنجليزي في قمة شهرته العالمية ، بايرون معبود مجتمع لندن الأرستقراطي .
عن السنوات الأولى :
كان مولد جورج جوردون بايرون بلندن في الثاني من يناير 1788 م ، وكان والده الذي عرف باسم جاك المجنون وسيمًا ، ولكنه كان مسرفًا جموحًا ، توفى ولم يزل بايرون في الثالثة من عمره ، أما أمه ، كاترين جوردون ، فكانت امرأة اسكتلندية ، قصيرة القامة ، بدينة ودميمة ، ذات طابع حاد، كان جاك المجنون قد تزوجها من أجل مالها ، وبعد أن أتى عليه هجرها ، وعندما ولد ابنهما ، كانت السيدة بايرون لا تملك أي شيء ، وكانت تعيش في حجرة متواضعة مفروشة في لندن .
وانتقلت كاترين بعد ذلك بقليل إلى ابردين ، وهناك تلقى بايرون تعليمًا اسكتلنديًا قاسيًا ، وكانت الحياة مع أمه مريرة وشاقة ، لم يكن يعرف مطلقًا ما إذا كانت ستهم بتقبيله أو بضربه …
وعندما بلغ بايرون العاشرة من عمره ، مات عم والده أللورد الشرير ، وأصبح بايرون بالوراثة أللورد بايرون السادس ، عندئذ عاد هو وأمه إلى إنجلترا ، ليقيم في مقر أسرة بايرون ، وهو قصر نيو ستيد ابي في نوتنجهامشير ، كان المبنى متهدمًا تملؤه الصراصير ، ولكن بايرون تشوق للإقامة فيه ، كان يشعر بأنه محاطًا بأرواح أجداده ، وسبحت تخيلاته في بحار من القصص المليئة بأطياف الرهبان ، الذين يغطون رؤوسهم بالسواد ، ويسكنون القصر ، وانتقل بايرون وأمه أخيرًا إلى القصر المهجور ، وبدأ بايرون يشعر بمتعة كونه لورد نيوستيد .
وفي عام 1801 م ، أرسل بايرون إلى مدرسة هارو ، وإن لم يكن يسعد بذلك في مبدأ الأمر ، وبالرغم من أنه كان يقرأ كثيرًا ، إلا أنه كان كسولاً ، وكانت طباعه الموروثة لا تحتمل نظام المدرسة القاسي الرتيب ، ولكنه سرعان ما أصبح محبوبًا ، وكان الجميع يعجبون به وبشجاعته وأمانته ، وبالرغم من عرجه ، فقد حاول الاشتراك في جميع الألعاب .
بعد هارو التحق بايرون بكلية ترينيتي بكامبريدج ، وذلك في عام 1805 م ، وكان يقضي وقته في ركوب الخيل ، والسباحة ، والملاكمة ، ولعب الميسر ، وسرعان ما نفذت نقوده والتجأ للمرابين ، وكان يحتفظ في حجرته في ترينيتي بدب اليف ، وفي الفترة التي قضاها في كامبريدج ، قرر أنه يود أن يكون شاعرًا ، وفي عام 1807 م ، نشر أول مجموعة من أشعاره في كتاب باسم (ساعات الفراغ) .
وقبل أن يسافر بايرون إلى الخارج ، كان يعيش في نيوستيد ، حيث كان يكتب الشعر ، ويستضيف أصدقاءه من كامبريدج ليقيموا معه ، ويتدرب على إطلاق المسدسات ، وكان بايرون طيلة حياته يحتفظ دائمًا بمسدسين معبأين في جيوب صديرته ، وبعد العشاء كان وأصدقاؤه يحتسون النبيذ من جمجمة بشرية قديمة !!
الزواج والمنفى : 
رأينا أي طراز من الشباب كان بايرون قبل أن يبدأ رحلة الهجرة ، وكيف أصبح مشهورًا بعد عودته لإنجلترا ، وعندما وصل إلى قمة شهرته ، تزوج فجأة من سيدة شابة جادة التفكير ، ولكنها لا تتمتع بشيء من الجمال ، تلك هي أنابيلا ميلبانك ، كان هذا الزواج فشلاً ذريعًا ن فقد كانت زوجته وارثة عن أهلها الأثرياء ، وكان هو السبب الحقيقي في زواجه منها ، لكي يسدد ديونه المتراكمة المتزايدة ، ويسدد الرهنية على قصر نيوستيد .
ويعد زواج لم يدم أكثر من عام ، طلقت ألليدي بايرون زوجها ، وكانت من ضمن ما اتهمته به أنه كان على علاقة غرامية بأخته أوجستا لي ، وكان ذلك سببًا في فضيحة لم يسبق لها مثيل في المجتمع الإنجليزي المحافظ ، وفي أبريل من عام 1816 م ، غادر بايرون إنجلترا مغادرة نهائية .
الحياة خارج إنجلترا : 
عاش بايرون معظم وقته من عام 1816 م حتى وفاته في عام 1824 م ، في إيطاليا ، متنقلاً بين فينيسيا ، ورافينا ، وبيزا ، وجنوا ، وفي مبدأ الأمر استأجر فيلا تطل على بحيرة جينيف السويسرية ، حيث أنشأ صداقة وطيدة مع شيللي ، الذي كان يقطن قريبًا منه .
وفي إيطاليا نمى بايرون وتطور كشاعر وكرجل مجتمعات نشط ، كان بعيدًا عن غطرسة المجتمع الإنجليزي ورقابته الصارمة ، وأمكنه أن يطلق العنان لكل مواهبه العظيمة ، وقد بدأ أعماله بقصيدته الرائعة التي نعرفها جميعًا ( دون جوان) ، التي كانت تفيض بكل ما يشعر به من تهكم ، وازدراء ، وذكاء .
تهكم بايرون على حكام أوربا في ذلك الوقت ، وهاجم الحرب بوصفها نشاط همجي لا جدوى منه ، وتعتبر (دون جوان) خير تعبير عن فلسفة بايرون في الحياة ، أو قل أنها التعبير الصادق عن ذاته ، وأصدق مما جاء في أي من كتاباته الأخرى ، وإن كان بعض مؤرخيه يجعلون من خطاباته خير تعبير عن نفسه وحياته وآماله وإحباطاته .
أقول لكم : كان جزء كبير من إيطاليا في ذلك الوقت يخضع لحكم النمسا ، وقد توطدت صداقة وثيقة بين الشاعر بايرون والكاربوناري ، وهم طائفة من الوطنيين الإيطاليين صمموا على طرد المستعمر النمساوي من بلادهم ، فكان بايرون العاشق للحرية يمدهم بالمال والزاد ، والواقع أنه قدم الكثير من أجل استقلال إيطاليا .
بطل اليونان : 
وكما عمل بايرون في سبيل استقلال إيطاليا ، فإنه في عام 1823 م صمم على مساعدة اليونان للتخلص من الحكم العثماني ، وفي جنوا الإيطالية كون حملة ، وأنفق كثيرًا من ماله في سبيل القضية اليونانية ، وفي شهر يوليو من عام 1832 م ، أبحر بايرون وحملته من جنوا ، فوصلوا بعد ستة أشهر إلى ميسولونيا باليونان ، حيث كان مقر الحكومة المؤقتة .
وفي اليونان نفسها ، كان الظاهر أن كل شيء يسير في الطريق الخاطئ ، إذ كان الثوار اليونانيون يحاربون بعضهم البعض ، دون أن تعرف من الذي يحارب من ؟ ! ، وكانت الأمطار التي لا تنقطع قد جعلت المكان أشبه بالمستنقعات ، والأدهى من ذلك أن المرض قد حل ببايرون ، وكان الطبيب الإيطالي الشاب الذي يرافقه في سفره يقوم بحجامته باستمرار ، الأمر الذي امتص من بايرون القوة التي كان أحوج ما يكون إليها في ذلك الوقت ، وفي يوم 19 أبريل عام 1824 م ، لفظ بايرون آخر أنفاسه ، وقد استغرق وصول نبأ وفاته لإنجلترا قرابة الشهر .
عزيمة لا تلين : 
كان بايرون قادرًا على كثير من الأعمال الشاقة وضبط النفس ، من ذلك أنه وجد نفسه يميل للبدانة ، في حين كان يرغب في أن يظل رشيقًا ، فرفض تناول أي طعام سوى البسكويت وماء الصودا .
وفي عام 1810 م ، خلال رحلته إلى اليونان وتركيا ، شاهد بايرون مدخل الدردانيل ، ذلك الشق الضيق الذي يفصل أوربا عن أسيا ، فحاول مرتين أن يجتاز المسافة بين القارتين سباحة دون جدوى ، ولكنه أصر ، وفي المرة الثالثة نجح في محاولته التي استغرقت ساعة ونصف قضاها في الماء .
وهناك العديد من الرسومات واللوحات تعكس رحلة حياة بايرون ، لوحة سراي موشينجو حيث كان يعيش بايرون في فينيسيا الإيطالية ، وهناك ألف رائعته (دون جوان) ، وكان يحتفظ في هذه السراي بحديقة حيوانات صغيرة ، ولوحة ثانية تصور بايرون في لحظة تأمل فوق شرفة فيلا ديوداتي المطلة على بحيرة جينيف ، وصورة ثالثة لقصر نيو ستيد في نوتنجهامشاير ، وقد كان منزل أسرة آل بايرون ، ثم باعه بايرون بعد لك لسداد ديونه ، وهو الآن ملك لشركة نوتنجهام ، وصورة ثالثة تصور بايرون وهو في زي رجل ألباني ، كما أن هناك العديد من الصور التي تصوره في فترة شبابه .
__________
*باحث وخبير في التراث الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *