لغة السرد في “الأرملة السوداء”


*ليث سعيد الرواجفة


خاص ( ثقافات )
يسعى هذا المقال إلى تناول أحد مستويات لغة السرد في رواية (الأرملة السوداء) للكاتب صبحي فحماوي. 
وهي رواية صدرت في طبعتها الأولى عن دار الهلال المصرية في أيار 2011م، وطبعتها الثانية عن مكتبة الأسرة/ وزارة الثقافة الأردنية عام 2015م. تقع في (262) صفحة من القطع المتوسط. توزعت على ستة وعشرين عنواناً، أما آخر عشر صفحات، فتقسمت بين (توضيحات ومراجع)، والتعريف بصبحي فحماوي وسيرته الأدبية. 
هذه الرواية في شكلها العام عبارة عن “أن روح شهريار العظيم- ملك ألف ليلة وليلة- قد حلت في جسد طفل حديث الولادة، إذ سيطرت هواجس على مخيلة والده سراج البدر – المسكون بتقمص الأرواح التي تغير عليه كل ليلة، فتتحبب إليه حيناً، وتهاجمه بشراسة ترهبه أحياناً– إلى أن أقنعته أن روح الملك شهزمان ستحل في جسد مولوده الأول، فسماه بنفس الاسم الشهير! وعزز ذلك التأثير إقدامه، بأن أوعز إليه بتسمية ولده الثاني نفس الاسم السابق لأخيه الملك شهريار، الذي ذاع صيته في عموم الأرض، وليس في بلاد هارون الرشيد وحدها. “( 1)
الشاب (شهريار)، الذي عاش طفولته في جبل النظيف وتحديداً بجانب (مقبرة عيشة)، قبل أن يكبر وينتقل إلى إحدى مناطق غرب عمان، يعمل مدعي عام بعد دراسته للقانون وحصوله على شهادة الماجستير وتحضيره لرسالة الدكتوراة تحت عنوان (الجريمة النسوية)، وكان يعاني من عقدة ضد المرأة بشكل عام، ومن الأنثى والأنوثة بشكل خاص، فهو يرى أن الذكر مظلوم في حياته، يعيش ويموت في خدمة الأنثى، التي تستغله في كل شيء، وشغله خوفه على الذكر لدرجة الوصول إلى امكانية الانقراض “فإن احتمال انقراض الرجال وارد، نظراً لطبيعة عملهم، الذي يتصف أحياناً بالخطورة، فضلاً على الضغوطات النفسية، وما ينجم عنها من أعراض مرضية، كأمراض القلب، والشرايين، والذبحات الصدرية، والجلطات، والضغط، والسكري، وغيرها من الأمراض القاتلة.”(2)
عمله كمدعي عام عرض عليه العديد من القضايا، التي زادت عقدته، ضد المرأة، التي تتقن دور الضحية، وتستغل الذكر في كل شيء، ومن بين القضايا:
1- قضية الرجل العجوز صاحب الدكان، الذي طالب سيدة بسداد الدين المتراكم عليها، ولكنها سارعت إلى خلع حجابها، وصراخها، واتهامه بهتك عرضها.
2- قضية المرأة التي اتهمت رجل باغتصابها، وهي التي ذهبت إليه بمحض إرادتها؛ وذلك لطبيعة عملها المشبوه والمنحرف. 
3- قضية (محسن المالح) مع زوجته (حياة)، التي حملته ما لا طاقة له به، من مصاريف رحلات وطلباتها التي قسمت ظهره، وكان آخرها سيارة. دون مراعاة ظروف زوجها المادية، والاحساس به. 
4- قضية (عشتار محمود) مع (جعفر الطالبي)، هذا الرجل المتغرب، أوقعت به، واستدرجته بكيدها إلى شقتها، في وقت متأخر، فتفاجأ بقدوم زوجها، مما دفعه إلى القفز من أعلى البناية، مما أدى إلى وفاته، واستمرت التحقيقات مع مرافقه، الذي تبين فيما بعد أن المرأة وزوجها كانا على ترتيب واتفاق للقيام بهذا الفعل. 
وبقي يحيا كذلك حتى جمعه القدر عند الطبيب (علاء الكاشف) المختص بالأمراض النفسية، بــ(شهرزاد)، صاحبة رؤيا مناقضة له تماماً، فهي طالبة دكتوراه، تدرس (الاكتئاب النسوي)، وترى أن الرجل يمارس غطرسته وسلطته على الأنثى المستضعفة، التي تفني عمرها في خدمته، وصحتها في تربية أبنائه، الذين ينسبون في النهاية له، وليس لها. 
المفارقة في رواية (الأرملة السوداء(:
إذا جاز لنا تصنيف هذه الرواية، اعتبرناها رواية قائمة على ثنائية (الأنا/الآخر)، تتبنى المفارقة (Ironie) لإشعار القارىء بفحوى خطابها. وليس هدف السخرية هنا إثارة الابتسامة الممتعة فقط ، وإنما هي مفارقة مُرّة، تنتقد الوضع القائم، وتحث على تغييره، المتمثل في نظرة المرأة للرجل، ونظرة الرجل للمرأة. وبالتالي تكون خطة من خطط الخطاب الروائي التي من خلالها ينشد التأثير والتغلغل في القرّاء، وجذبهم وبعث الدهشة في نفوسهم، وإثارة الأسئلة، والتشويق، ومعرفة ما سيحدث. 
والمفارقة بحسب رأي د. نبيلة إبراهيم ” لغة اتصال سري بين الكاتب والقارئ ” ( 3)، ويرى محمد العبد، ان المفارقة ” نوع من التضاد بين المعنى المباشر المنطوق والمعنى غير المباشر “(4 )، ويرى د. عبد الهادي خضير أن المفارقة ” تعبير لغوي بأسلوب بليغ يهدف إلى استثارة القارئ، وتحفـّـز ذهنه لتجاوز المعنى الظاهري المتناقض للعبارة والوصول إلى المعاني الخفية التي هي مرام الشاعر الحقيقي”( 5)، فالمفارقة مفهوم فضفاض، أسال النقاد الكثير من الحبر في دراسته، ولكن يمكن اجماله بأنه معنى ظاهر يخفي في داخله معنى باطن يتناقض مع الظاهر. 
وفي روايتنا (الأرملة السوداء) تطالعنا المفارقة من بدايتها، خلال المشهد الذي يقدمه صبحي فحماوي بحرفيه عالية، يوهم القارئ بأنها علاقة بين رجل وامرأة، حتى يندهش، بأنه يتحدث عن أنثى العنكبوت، التي يشاهد فيلم وثائقي عنها (شهريار)، فحضر عنصر الدهشة والمفاجأة وباغت القارئ، مما رسم البسمة على شفتيه في النهاية. 
وأيضاً قصة الشيخ السمندل: 
” سألت الشيخ السمندل عن الزواج بامرأتين، فلم يُفضِّل ذلك .”وهنا أفرجت ميسون عن نابيها بابتسامة مطْمئنة، وقد هدأت أساريرها، ولكن زوجها وبعد انتظار لئيم، أردف قائلاً : ورداً على استفساري عن الحل الأفضل، قال الشيخ السمندل:
“من الأفضل أن يتزوج الرجل بثلاث نساء، ذلك لأنه إذا تزوج باثنتين، فإنهما سيُنسيانه الحليب الذي رضعه…”( 6)
ومن بين المفارقات التي يمكن حصر جزء بسيط منها، وذلك لحيز الدراسة الذي لايسمح بغير ذلك:
1- مفارقة العنوان:
من يطالع العنوان من الناحية السطحية، يعتقد أنه يتحدث أرملة بشرتها سوداء، ولكن الدلالة العميقة غير ذلك، “سواء كان إنساناً أو حيواناً، فعلاقة الأنثى بالذكر، لاتختلف عن علاقة “الأرملة السوداء” بذكر العنكبوت!”( 7(
2 – مفارقة المنظور (الرؤيا): 
ساهمت هذه المفارقة بشكل كبير في البناء الدرامي للرواية، “أنا في الحقيقة مهتم بإنشاء جمعية لحماية الرجل. تضحك شهرزاد فتقول: ” حماية الرجل؟! يا رجل، قل حماية المرأة” (8)
تجلت بين (شهريار)، و(شهرزاد)، وذلك بانحياز الأول (للذكور)، والأخرى (للإناث). 
“تتابع دخول “أنثى وذكر” متضادين في أفكارهما الأنثوية والذكورية، ويدعي كل منهما أن جنسه محاصر ومظلوم ومضطهد من قبل الطرف الآخر، وأن اسميهما شهريار وشهرزاد، فشعر أنها مفارقة عجيبة ” ( 9(
* شهريار: 
أ- ” معظم المتهمين بالأعمال الشائنة في هذه المحكمة، والذين يتعرضون للعذاب هم من الذكور وليست الإناث!”( 10)
ب- أليس من الظلم أن يُمنع دخول الرجال الفارين في “قوارب الموت المهاجرة إلى إيطاليا”، بينما يسمح للنساء الجميلات بحرية العبور!” ( 11)
جـ- ” أليس ذكاء المرأة هو الذي أَتْبع المولود إلى عائلة الزوج وليس لعائلتها، وذلك لتتخلص من تبعات حمايته ونفقاته، التي يتكلفها حتى لو طلقها، أو مات موروثاً…” (12 )
*شهرزاد: 
أ- ” الشباب يتزوجون في الوقت الذي يريدون”، تقول لنفسها، “وأما الشابات فلا يستطعن أن يقررن زواجهن في الوقت المناسب! هم يختارون شريكة الحياة التي يريدون، ولكن البنات ينتظرن من يفرض نفسه عليهن باختيار!( 13)
ب- ” وتستغرب الباحثة حال الأب، الذي إذا حمل بطيخة من الدكان إلى بيته فإنه يتثاقل بحملها، ولكن الأم تحمل جنينها في بطنها تسعة أشهر، دون أن تتخلى عن مسؤولياتها في الحمل المترافق مع خدمة البيت وباقي أفراد الأسرة..” (14)
جـ- ” إن هذه العروس بعد زواجها ستحمل كل طفل من أطفالها في بطنها تسعة أشهر، فهل تستكثر عليها أن يحملها الرجل لعدة دقائق، إلى أن يحين إيداعها في قفص الزوجية؟”( 15)
3- مفارقة الحدث: 
* في السابق كانت الإناث تُمنع من السفر دون موافقة ولي الأمر الخطِّية، واليوم انقلبت الآية، فصار يسمح للإناث، بينما يُمنع الذكور من السفر، دون موافقة ولي الأمر الخطية (16)
* تمثلت في تحول رؤية كل من (شهريار/شهرزاد)، في نهاية الرواية، من خلال الجمعية التي بدأت (حماية الرجل)، الى (جمعية حماية الانسان). “وخلال هذه الفترة القصيرة التي قضتها في الجمعية، استطاع شهريار أن يغيِّر الكثير من مفاهيم شهرزاد نحو الرجل، واستطاعت هي أن تغير الكثير من مفاهيمه نحو المرأة، فيلتقيان في منتصف الطريق.” (17 )
* إن ذهابه إلى أخصائي نفسي (الطبيب علاء الكاشف)، ليفك عقدته ضد المرأة، جعل الطبيب تحول إلى أول أنصار أفكاره، ومن مؤسسي (جمعية حماية الرجل !)
4- مفارقة التناص: 
“*كان شهريار في تلك اللحظات يفكر في قصة “يوسف مع امرأة العزيز”، الذي رغم أن قميصه قد قُدّ من دبر، إلا أنه أُدخل إلى السجن، ولم يخرج منه إلا بعد عدة سنين، وفي ظروف غامضة” ( 18)
فالتناص هنا، متناقض مع السياق، فسيدنا يوسف لم يرتكب فاحشة وسُجن، بينما الرجل الذي اعتدى على ابنته، حر طليق. 
“* أنا أتألم إذن أنا موجود.” ( 19)
” *للأنثى مثل حظ الذكرين!”( 20)
5- المفارقة اللفظية: 
“*فقالت وهي راغبة مُتمنِّعة” ( 21)
“* نحن النساء نُحَبُّ، لا نحِبّ.!” ( 22(
“* وهي منشغلة بالتفكير في أنانية الرجل، تداهمها صور مضحكة محزنة”( 23(
“*معي وليس معي”! ( 24)
6- مفارقة مكان: 
“* مقر الجمعية الذي صادف أن يكون إلى جوار “حديقة الوفاق والاتفاق”( 25)
“* ونوادي للسهرات البريئة، وأخرى لغير البريئة” (26 )
“* كان أبي يملك سيارة شحن في بلدنا (صرفند العمار) سنة الستة وثلاثين، يوم ما كان أبوك يملك حماراً في بلدكم (صرفند الخراب)!” ( 27)
في النهاية يمكن القول أن هذه الرواية ثرية بمفارقاتها، وهذا جزء بسيط منها، فتطرقت إلى ثنائية الزواج عند العرب والغرب (ص90-91)، وأيضاً سلطة الرجل على الرجل ، وسلطة المرأة على المرأة (ص201).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1 – رواية الأرملة السوداء، صبحي فحماوي، دار الهلال، القاهرة، 2011م،ط1، ص14 
2- الرواية، ص110 
3- المفارقة، نبيلة إبراهيم:132
4- المفارقة القرآنية، محمد العبد، دار الفكر العربي، القاهرة، 1994، م:14
5- المفارقة في شعر المتنبي، د.عبد الهادي خضير، مجلة كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، العدد 11 /3، 2000 م:91
6- الرواية، ص117 
7- الرواية، ص143 
8- الرواية، ص167 
9- الرواية، ص136 
10- الرواية، ص46 
11- الرواية، ص54- حسب رأي الرئيس بيرلسكوني آنذاك.
12- الرواية، ص59
13- الرواية، ص124 
14- الرواية، ص 157 
15- الرواية، ص181 
16- الرواية، ص45 
17- الرواية، ص247 
18- الرواية، ص53
19- الرواية، ص59 
20- الرواية، ص121 
21- الرواية، ص62 
22- الرواية، ص82 
23- الرواية، ص127 
24- الرواية، ص166 
25- الرواية، ص170 
26- الرواية، ص176 
27- الرواية، ص105

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *