القَصَص كوعي كاذب!


مرزوق الحلبي*



خاص ( ثقافات )

في مطلع صباي ترددت على “الخلوة”، بيت الصلاة عند طائفة الموحدين. وجلّ ما سمعته هناك قصص. حكايات لكل منها مغزى فلسفي بعيد أو قريب. يجتهد الرُواة في شرح المغزى وما وراء المعاني الأولى وليس بكثير من نجاح خاصة أنني كنتُ أستشعر ضعفهم في اللغة كونهم أبناء ثقافة مسموعة لا مكتوبة. أستعيد ذكريات تلك الأيام كلما زرت بيت والدتي التسعينية فأجدها ـ وهي المحرومة من نعمة القراءة والكتابة ـ تستمع عبر الجهاز إلى قصص دينية أو لنقل شعبية ضعيفة اللغة حتى الركاكة ناهيك عن بؤس المضامين. وللقصة المحكية الواحدة في الثقافة المسموعة ألف صيغة وصيغة. لكن يبدو أن القصص يعود الآن من الباب الواسع ضمن ثقافة الصورة وعجائب اليوتيوب وفنون الاستعراض المنقولة عبر الشبكات بسرعة البرق. إنها عودة مظفّرة للقصص من كل زاوية، حيثما ذهبنا نجد مَن يقصّ علينا قصة أو أكثر. وعلينا أن نتابعه بحثا عن القول الفصل أو الرسالة التي تنتظرنا في الختام أو بعد سكوت الراوي!

القصص ليس محصورا في الشيوخ ومريديهم. بل رأينا سلسلة من الكُتب “الفلسفية” التي يُريد واضعوها أن يُقنعونا بوجهات نظرهم العميقة والسطحية من خلال قصص وأساطير مختزلة يتخذون معها هيئة المتأملين في أحوال الكون وأسراره ويُشركونا في ذلك داعين كل واحد منّا إلى الدخول في الفيلم/ القصة والذهاب إلى خاتمتها حيث تكمن الحقيقة لنا حسب وعدهم. ولا يكون علينا عندها سوى لملمة ما استطعنا أو احتجنا منها وبلوغ الغبطة وراحة البال المنشودة. فمنهم من يحكي لنا كيف تجلّت له الحقيقة في دير معزول في الهملايا، وأنه من فرط حبّه للبشرية ولنا نحن القرّاء، قرر مشاركتنا حقيقته عبر قصص، حكايات تبدأ ولا تنتهي. وفي ثنايا كل منها درس علينا استبطانه فنصل ما وصله هو من فيض وفناء في الخالق أو في الحقيقة المُطلقة المجرّدة. وهذا تحديدا، مُنتهى السعادة.

يُخيّل إليّ أحيانا أن واضعي هذه الكُتب إنما يريدون لكتبهم المطبوعة بأشكال أنيقة، أن تكون صندوقا لحبوب الهلوسة أو المخدر الذي يؤخذ حَقنا أو مشموما. كل أقصوصة هناك حبّة أو وجبة. نتناولها فننتشي وتشعّ عيوننا نورا وألقا.

لقد مشى على طريق الأقصوصة والأسطورة في السنوات الأخيرة أولئك الطالعون علينا بوظائف “التنمية البشرية”. هؤلاء، أيضا، على نهج الشيوخ القدماء والحديثين ومؤلّفي كُتب “الفلسفية العملية”. يحشدون المئات في قاعة. يتزوّدون بأحدث تقنيات الصوت والعروض ثم يأخذون بنشر فلسفتهم عبر حكايات متسلسلة من المفروض أن ترتبط بحبكة تؤدّي بالسامع إلى “إدراك حقيقته” فيهنأ هو وعائلته التي يُمكن أن تكون معه. ما أن يُدرك حتى تنتهي مآسيه وضائقته ومصاعب الحياة في أسرته ! هؤلاء ـ العاملون في التنمية البشرية ـ أنواع. فمنهم مَن درس وتخرّج من دورة تدريب ليدخل في أخرى، في الوطن وخارج الوطن. ويذكرون أمامنا بنوع من الفخر اسماء مدرّبيهم العالميين وكراماتهم أو معجزاتهم ـ أساطير صغيرة كمدخل للأساطير الكبيرة. منهم مَن يغتاظ لكثرة المنخرطين في هذه المهنة ويصنّفهم بين جدي ومهني وبين مجرّد متبجح مدّع لا علاقة لهم بالتنمية البشرية ولا بالتدريب (coaching). ومع هذا سنجدهم جميعا متأبّطين حكاياتهم وقصصهم ومهرولين من قاعة إلى قاعة يتلونها بشكل ميكانيكي وبلغة أكثر بؤسا. تهيج القاعة أحيانا أو يطير السقف من التصفيق مع شعور كثيف بحضور الحقيقة وغياب الزيف، بظهور الحلول السحرية لكل أنواع العُقد الحياتية المستعصية بما فيها لتساقط الشعر أو العنّة الجنسية. فيخرج المدرّب بعدّته تسبقه ابتساماته ويخرج الناس لمصافحته كأنه منقذ مخلّص على طريقة ما بعد الحداثة ـ مسيح صغير أو نبي يأتي بالكرامات ويبهر المتحلّقين حوله.

كأن الناس مغتربون عن أنفسهم وما أن سمعوه حتى انتهى الاغتراب! كأن الناس هائمون على وجوههم فما إن سمعوا قصصه وعُرب صوته المتماوج حتى بانت لهم معالم الطريق ومسالكها!

علينا أن نعترف أن الإنسان بصفة عامة شغوف بالقصص والحكاية وإلا ما سرّ إقباله على روايات من كل نوع وصنف حتى تلك التي لا تتضمن سوى حبكة. وقد تكون الحبكة، لا سواها، غاية الرواية الأولى والأخيرة. وهذا صحيح بالنسبة للكثير من الروايات من “الجانر” الراهن التي لا مغزى لها سوى التقنيات الكتابية الواردة في متنها. فالمؤلّف يتعمّد استعمال تقنيات سردية وموتيفات التشويق بحيث تكون الرواية من أولها إلى آخرها مجرّد حبكة. لكن لا يمنع هذا محبي التأويل من إسقاط أفكار ورسائل ومغازٍ على الرواية وإسباغ صفات الحكمة والفلسفة على واضعها. فمنذ ولادة فكرة “بارت” بموت الكاتب وبقاء القارئ المؤوّل، سطع نجم السرد والقصص في الرواية، أيضا. قصصٌ على مدّ النظر وأناس ينتظرون على أبواب المطابع ودور النشر بحثا عن قصة ورواية وأسطورة تأخذهم من هذا العالم الحسيّ إلى الرائع المتخيّل! وعليه، فإن القصة التي تصير سردا أو أساطير أو خرّافيات ـ باللغة المحكية الفلسطينية ـ هي فن ينطوي على سحر ما. وقد يكون هذا السحر لازما في مواجهة الاغتراب الذي أنتجته السلطة/ الدولة خاصة إذا كانت هائلة القوة وغير مرئية مثل سلطة العولمة ومنظوماتها الكونية، فالحاجة إلى السحر من خلال القصص ضرورية لمواجهة إفلات المصائر من أيدي أصحابها ومن لغاتهم. إذا كان الفرد صفرا في مواجهة الدولة فأي حجم له في ظلّ العولمة وكياناتها الهائلة الكِبَر؟ حالة من الجزع تولّد حاجة إلى أساطير تُعيد للإنسان توازنه وبعض طمأنينته. وهي أساطير متفاوتة المستويات. فمنها تلك الشعبية المفصّلة على ناس الأرياف النائية أو تلك المصممة للفئات العاملة في المدن وضواحيها. وثالثة يتمّ إخراجها للفئات الوسطى الميسورة والمقتدرة. وأفضلها تلك المخصصة للنُخب المثقّفة والرغدة. ولهذه متطلباتها من تقنيات وحبكة وأساطير تلفّ الكون غير محلية ولا شعبية تتسم بمدى كبير من “الفلسفة” ومن “الغموض” حتى تصير أكثر قيمة و”تأثيرا” في نفوس السامعين.

كأننا في الحداثة السائلة عُدنا إلى الأسطورة أو القَصص لا نستطيع العيش إلا به وفي رحابه. كلنّا – متدينين أو علمانيين أو ملحدين ـ لا فرق فجميعنا بحاجة إلى نوع من أنواع الأساطير حتى يخلد إلى النوم، وهذا ما يذكرني بكتاب غادة السمان “بيروت 75” الذي تصف فيه بيروت المنجمين وقراءة الطالع والمخدرات والبوهيميا. فقد كانت المدينة بحاجة إلى هذا البُعد “الميستي” في أزقتها لتصح مدينيتها! وها هم الناس اليوم في المسجد والكنيسة وفي الحي والقاعة والمسرح والمدرسة يسعون وراء القَصص باعتباره حيزا يستسلم فيه الفرد لإغفاءة أو طمأنينة منشودة.

الذاهبون إلى القَصص يفعلون ذلك بوعي تام. وعي وإن كانت غايته الوهم والتوهّم وإسقاط الرغبة في الطمأنينة على قاص أو أسطورة فإنه وعي. أمكننا وصفه بـ”الوعي الكاذب” على الطريقة الماركسية لأنه لا ينطوي سوى على اكتساب شعور ما مأمول في ختام حفلة قَصص أو عرض قوامه فن الخطابة ولغة الجسد وفنون الاتصال. لست من المستخفين بهذه العناصر في التواصل لكنها غير كافية لإحداث سيرورة تُفضي إلى الوعي. فإذا حسبنا سيرة الفرد وتوقفنا عند محطات الانتقال من طفولة إلى صبا إلى شباب إلى كهولة ثم الشيخوخة وما فيها من تراكم المدارك والتجارب والاكتشافات والاستنتاجات لرأينا كم هي الطريق طويلة من الصفحة البيضاء إلى الإدراك العقلي والشعوري والذهني. كم هي المسالك متعرّجة وعرة وشائكة من الوعي الأول وبداية إدراك العالم والمسميات حتى “الإدراك الأخير”! وأكثر، كل واحد منّا يعرف المسافة الزمنية والجغرافية أحيانا بين إدراكه “حقيقة” ما وبين التصرّف وفق هذا الإدراك. لا بدّ من سيرورة ما لحصول الإدراك لا لقصة ما. فقصة واحدة لا تكفي وكتاب من القصص عاجز عن تغيير الأفراد، وهنا علينا التفريق بين أثر يتركه فيك نص منقول أو مكتوب أو فيلم مرئي وبين حصول الإدراك والوعي المفضي إلى التغيير.

وعليه، أراني أبتسم وأنا ألمس عودة “القَصص” من الباب الواسع وانخراط الناس فيه بوصفه سحرا مخلّصا من معاصي الحياة ومغاليقها. فكأن العولمة أعادت/ قادت الناس إلى حالة من البؤس لا تنتهي إلا بالأسطورة أو الخرّافية. وقد تحوّلت في مختلف دوائرها وأوساطها إلى حيز الخلاص، فكأنها حصن يحمي الفرد من غائلة الوقت ومن طوفان العولمة وتبعاته. نقول هذا وكل أنواع القصص إما أنها تقوم على إنتاج المُتَمَنى المُشتهى من مثالية عالية أو أنها تصنع الأمل الموهوم كأنها صناعة أخرى من الصناعات الاستهلاكية أو الأغذية المعلّبة، وهو أمر ما كان ليحصل لولا ذهاب الإعلام بمعظمه في مسار القصص وصناعة الوهم ونسخ الآمال وعولمتها. كل هذا بينما أوضاع الناس تزداد سوءا على الغالب مع اتساع الفوارق ورقعة الفقر والفئات المسحوقة حتى النُخاع. نقول هذا وعلماء الاجتماع الجدد يشككون في إمكانية حصول تغيير أو ثورات أو تحولات تُذكر في زمن العولمة كما حصلت في قرون سبقت. ومن هنا يبدو القصص بصيغته الجديدة احتيالا من الفرد على ذاته أو من “مدرّبي التنمية البشرية” على البشر أو من الشيخ على مريديه. كل شيء في القصص يحصل في اللغة أو في الخيال بينما تتكرّس الوقائع أكثر سوءا أحيانا. العودة إلى القصص عودة ظريفة إلى الغيب!
____________
*شاعر وكاتب فلسطيني 

شاهد أيضاً

الكتابة الخضراء.. الفلسفة والبيئة!

(ثقافات) الكتابة الخضراء.. الفلسفة والبيئة! ساسي جبيل   يقول الكاتب الأميركيّ ريتشارد لوف: «بوسع طفل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *