أمبرتو إيكو: لوغوف سارد كبير قادر على منح الحياة للماضي ثانية



*ترجمة : عبد الرحيم نور الدين


خاص ( ثقافات )


سنتان فقط تفصلان بين وفاة المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف (1 يناير1924 – 1 أبريل 2014 ) وبين مغادرة أمبرتو إيكو(5 يناير 1932 – 19 فبراير 2016 ) لعالمنا. هذه شهادة الكاتب والسيميولوجي الإيطالي أمبرتو إيكوعن صديقه، والتي نشرتها يومية لوموند بعد إعلان موت لوغوف.
____________
توفي جاك لوغوف(Jacques Le Goff ) ، كان عمره 90 سنة، سن معقول بالنسبة للكثير من الناس، ومع ذلك فوفاة زوجته كانت سببا في اضطرابه؛ السنوات الأخيرة من حياته قضاها دون أن يغادر بيته، رغم أن ملكاته الفكرية ظلت سليمة. لم يتوقف عن العمل والنشر،وهو يتنقل في شقته الصغيرة بمساعدة مشاية آلية، بين ناطحات- سحاب الكتب التي لم تعد تجد مكانا فوق الرفوف المكدسة، شبه مانهاتن سعة المعرفة.
كانت فرنسا تفتخر بمؤرخين لامعين للمرحلة القروسطية، يكفي التفكير بالنسبة لتاريخ الفلسفة في إتيون جيلسون، وبالنسبة لتاريخ الفن في إميل مال أوهنري فوسيون، وبالنسبة لكتابة التاريخ في بيغين أودوبي ؛ لكن لوغوف كان ممثلا شخصيا بشكل جد خاص لهذا التقليد الكبير. 
ولد جاك لوغوف وسط “الحوليات “، المجلة المؤسسة سنة 1929 من طرف ماكس بلوك ولوسيان فيفر، والتي كانت تنادي بمقاربة جديدة لكتابة التاريخ، مفضلة على تاريخ الأحداث ( أسماء، معارك، تواريخ، معاهدات سياسية ) بحثا يغطي كل مظاهر مرحلة ما، وبخاصة الحياة المادية، العادات، البنيات الاجتماعية. 
كان لوغوف، ومع انخراطه في خط هذا التقليد، يتميز بتفجيره لكل الحدود العازلة لتاريخ الأحداث، وأنماط التفكير، وأنماط العيش. سنة 1964، كشف كتابه ” حضارة الغرب الوسطوي ” (دار نشر أرتو)عن عصر وسيط بكل أبعاده، منذ زراعة اللوبيا إلى معجزات الهندسة المعمارية، من أنماط العيش إلى أنماط التفكير. أريد أن أعني من خلال هذا، أنه لوكان علي أن أوجه شخصا إلى الطريق الأفضل لفهم هذه المرحلة الكبرى التي شكلها العصر الوسيط ، لما كان بوسعي سوى التوصية بهذا الكتاب الكبير، رغم كونه قد صدر منذ 50 عاما.
لقد تجول جاك لوغوف في كل مظاهر العصر الوسيط غير المدروسة، حياة المثقفين والتجار، أو الغريب واليومي. هنا أيضا، إذا كان علي أن استحضر طريقته في كتابة التاريخ، فإنه ينبغي أن أدعو غير الملم إلى فهم ممتاز لهذه القرون، ليس بالتأكيد من خلال تعداد لائحة معارك، بل من خلال الانكباب على الصور المصغرة المجسدة لأشهر “الساعات الأكثر غنى لدوق بيري”. إذ فيها نرى كيف كان البدويون يجلسون حول النار، وكيف كانوا يزرعون حقولهم ويطعمون خنازيرهم. دون أن ننسى ذوق الألوان الذي نلاقيه في الملابس النسائية، في ألوان الخيول وفي الولائم.
لكن لوغوف، موظفا السجلين معا، تاريخ الأحداث والتاريخ المادي، كتب سيرة ضخمة لـ ” سان لوي”( دار نشر غاليمار). لقد تطلبت منه سنوات من العمل، وأتذكر قدر الحماس الذي كان يستعمله خلال عمله، لإلهاء أصدقائه، من خلال وصفه الطريقة التي اعتمدت لطبخ جسم الملك، بشكل يسمح بإرجاع عظامه إلى فرنسا، وذلك أثناء رحلة العودة من حرب صليبية. طريقة جميلة في كتابة التاريخ، والحال أن واجب السرد التاريخي هوأن يفهمنا ما يقع وما يفعل الناس في مرحلة منتهية. وإذا وظفت كلمة سرد، فلأن لوغوف كان أيضا راوٍ كبير، أي أنه كان يعرف تحويل التاريخ إلى قصص فاتنة، تجسيدا أيضا لخاصيته كرجل آداب مكتمل.
وكمؤرخ للثقافة ( كما للفلسفة واللاهوت ) أكثر من كونه مؤرخا للأحداث، فإن دراسته عن “ولادة مقام التطهير ” الصادرة سنة 1981 ( دار نشر غاليمار) تبقى معلمة في سعة المعرفة لا تقبل التجاوز، وفي استخراج النصوص المنسية.
هذا المتبحر في المعرفة، الذي قضى حياته تحت ظل الكاتدرائيات الكبيرة، كمتنزه فضولي في شارع فوار [ مقاطعة باريس الخامسة ؛ قرب السوربون والسان ميشال]، لم يحصر ذاته في عمل الأكاديمي الكبير، الأستاذ الكبير، بل وكما لا يزال قراء الجرائد يذكرون، إنه كان يعرف الحديث إلى الجمهور الواسع، بل إن عددا من مؤلفاته كتبت لهذا الجمهور الواسع، تلك الكتب التي لم تكن تبسيطية إلا ظاهريا ، بالنظر لثرائها من حيث التصاوير والوثائق الغريبة، مع بقائها فضلا عن ذلك، قابلة للقراءة ومزجية للجميع ؛ وذلك لأن المرء يشعر حقا بطول الأبحاث وبالمعرفة المحكمة التي تطلبتها كتابتها.
كان لوغوف أيضا ملتزما في حياة عصره السياسية بشكل نشيط، حتى لو كان صعب التصنيف. لكن أحب أن أذكر هنا بالشغف الذي أظهره خلال مساهمته في الأكاديمية الكونية للثقافات التي ترأسها إيلي فيسيل، حيث مع جورج سمبران وأنا، كان هو من حرر ميثاق الأكاديمية، نوع من البرنامج والنداء ضد كل شكل من العنصرية واللا تسامح.
وما دمت بصدد استحضار الذكريات الشخصية، أريد هنا أيضا التذكير بميله إلى الأطعمة الجيدة، وبحس الصداقة عنده، وبقدرته على الحديث عن أشياء كبيرة وهويشرب كأس خمر من نوع ” كالفادوس”. إن هذا لا هوبالصدفة ولا هو بشيء دون قيمة، لأنه في نظري، لكي يكون المرء عالما كبيرا، ينبغي أيضا أن يكون إنسانيا دون حدود: مزاجه الفرح وحبه للحياة كانا شكلا لقدرته على منح الحياة للماضي مجددا. 
_________
جريدة لوموند الفرنسية عدد 21526، الخميس 3 أبريل 2014. الصفحتان 1 و17.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *