*د. شهلا العجيلي
صاحب العين البلّوريّة ليس عنوان قصّة عن شخصيّة متخيّلة توحي بالغرابة، بل هو وصف لعمّي، المغفور له، الدكتور عبد السلام العجيلي، الذي صادف يوم الخامس من نيسان 2016 الذكرى العاشرة لرحيله عن عالمنا، والذي ترك فيه فراغاً كبيراً، لي شخصيّاً، وللعائلة، ولمدينته الرقّة، ولوطنه سوريّة، وللثقافة العربيّة.
لاشكّ في أنّ العالم العربيّ منحنا كتّاباً رائعين، وأنّني لا أزاود في موضوعة الانتماء على دماء الشهداء الذين قضوا دفاعاً عن أوطانهم، لكن لا بدّ من أن نستذكر نماذجنا، ذلك أنّ العجيلي كان علماً في الأدب والثقافة والعلم والسياسة، ليس بحكم المرحلة التاريخيّة فحسب، بل بحكم الوعي والممارسة، من حيث إخلاصه لفرديّته التي ثبت أنّها يمكن ألاّ تناقض إرادة الجماعة وقيمها وطموحاتها.
العين اليمنى لعمّي عبد السلام، التي خلال علاقتنا الطويلة جداً واليوميّة، لم أتمكّن من التحديق بها منعاً للحرج، هي عين زجاجيّة، تبقى مفتوحة حتّى وهو نائم، وقد أغمض عينه اليسرى الصحيحة الشهلاء الهدباء! لقد فقد عمّي عينه بسبب مرض ألمّ بها وهو طفل، ثمّ خطأ في العلاج، وليس في فلسطين، كما يظنّ البعض، حينما ذهب متطوّعاً لمحاربة الاحتلال الإسرائيليّ عام 1948. لم أفصل يوماً هذه العين الزجاجيّة عن بلّورة العرّافين السحريّة، التي يضعونها بين أيديهم فيظهر العالم متماوجاً من وراء بلّورها الشفّاف، وهذا ما حدث حقّاً إذ أرانا عبد السلام العجيلي بعينه البلّوريّة، أو بعين واحدة صحيحة، العالم منذ أربعينيّات القرن العشرين، حين عزّت رؤيته، عبر الأسفار المجبولة بالمتعة والمعرفة وخصائص النفس الإنسانيّة، في “قناديل إشبيلية” و”حكايات من الرحلات”، و “خواطر مسافر”… وأثّر بمشاهداته في حياة الكثيرين، وصنع نماذج خالدة من مثل سالي وألسيدو، وباسمة…وفي كلّ ما كتب لم تبارحه فكرة الهويّة، التي تشهر بوضوح في وجه كلّ التحوّلات التي تدّعيها ما بعد الحداثة، والتي ليست سوى تسويغات لهزيمة أخلاقيّة وسياسيّة.
أبدأ باختياره نماذجه، إذ طالما سمعت عن مشاهد فريدة تعلّق بها، وأثّثت ذاكرته ووعيه، ولعلّ أهمّها مشهد خروج الزعيم السوري إبراهيم هنانو من سجن الفرنسيّن في حلب، رافعاً رأسه بكلّ شموخ، وقد أثبت أنّه ليس مارقاً أو معتدياً بل مناضلاً وطنيّاً، وصاحب قضيّة عادلة، وندّاً للحكومة الفرنسيّة التي استعمرت آفاقاً من العالم، وهو يتمتّع بكلّ حقوق الأنداد. لقد سحرته قوّة الحقّ في شموخ هنانو الذي لم يصالح، ولم يهادن، ولم يقدّم تنازلات، تحت اسم اتفاقيّات أو مفاوضات. احتفظ العجيلي بذلك الموقف منذ عمر السادسة أو السابعة، ليكون وتداً مهمّاً في معمار ثوابته الإنسانيّة والأخلاقيّة والوطنيّة، آخر مرّة حكى هذه الحكاية كان قبيل وفاته بوقت قليل، في ندوة عن الجلاء، في جمعيّة العاديّات في حلب الشهباء.
يسلمنا هذا الموقف إلى عهد الصبا، حيث فلسطين هي فلسطين…
يعرف كثيرون عن تطوّع الدكتور عبد السلام العجيلي ومعه عدد من أفراد العائلة، في جيش الإنقاذ الذي ذهب لتخليص فلسطين من الاحتلال الصهيونيّ عام 1948 قبل دخول الجيوش العربيّة إليها، كان حينئذ نائباً في البرلمان السوريّ، فترك مقعده والتحق بالقتال طبيباً ومحارباً، لكن ما لا يعرفه كثيرون أيضاً هو أنّه قد ذهب للتطوع في الثورة الفلسطينيّة ضدّ الإنكليز عام 1937 بعد حصوله على الثانوية، واتجه إلى مكتب السيّد شفيق سليمان في دمشق، والذي كانيساهم في إرسال المجاهدين إلى فلسطين، فاستصغر الأخير سنّه، وقال له: “يا بنيّ ارجع إلى بلدك وتعلّم. الثورة الفلسطينيّة بحاجة إلى رصاص وخرطوش أكثر من حاجتها إلى الرجال.”.
يؤكّد العجيلي في ندوة أعقبت نكسة 1967 أنّه بسبب من رؤيته، ولنتذكّر تلك العين البلّوريّة، لم يشعر بالصدمة: “إنّ عام 1967 لا يشكّل عندي مثل ما شكّل عند كثير من الكتّاب والشعراء منعطفاً كبيراً لأنّهم في الواقع كانوا مخدوعين بمظاهر لم أخدع بها أنا في تلك الأيّام.”، وإنّ “للأمّة العربيّة قضايا كثيرة أهمّها وأخطرها وأكثرها إلحاحاً قضيّة فلسطين.. هناك نقطة ضعف في واقع التزام المثقّف العربيّ، تنتج من كونه في التزامه منفعلاً لا فاعلاً وتابعاً لا متبوعاً. فالأوضاع السياسيّة الراهنة في بلاد العرب والتنظيمات السياسيّة التي تستند عليها هي من خلق السياسيّين، وهؤلاء يدلفون في العادة إلى حلبة السياسة من قلاع الإقطاع العشائريّ أو مراكز النفوذ الاقتصاديّ أو من الثكنات العسكريّة، إذا لم يكونوا مدفوعين بمصالح أجنبيّة التبعة…وفي الحالات القليلة التي وجد فيها مثقّفون ساهموا في خلق التيّار السياسيّ انتهى الأمر بإقصائهم عن الحلبة، أو بتنازلهم عن عقليّتهم كمثقّفين ليصبحوا حكّاماً مستسلمين إلى ميكافيليّة السياسة أو إلى سطحيّتها.”.
لاحظوا أنّنا عشنا موجات متتابعة من عدم التغيير، حول تلك القضايا برمّتها، “ذاك الغيم حمل هذا الوابل!
المرأة شريك جماليّ…
يرى البعض أنّ العجيلي تكلّم على نساء العالم، واستثنى نساء الرقّة! وأنا أقول إنّنا لا يمكن أن نصل إلى تكوينات الاستعارات لدى الفنّان وأصولها الوقائعيّة، فالنساء اللواتي كونّ ذاكراتنا بروائحنّ وألوانهنّ وحكاياتهنّ وأغانيهنّ ودموعهنّ ومواقفهنّ، هنّ اللواتي نسقط تفاصيلهنّ على نساء العالم، لكنّنا نخاتل، لأنّ الفنّ ضرب من المخاتلة، يرى العجيلي: “المرأة رفيقة الرجل التي بدونها لا تكتمل المعرفة ولا تتمّ المتعة، وإذا كنت محبّاً لمعرفة النفس الإنسانيّة في أعماقها، فإنّك لا تجد غير المرأة من يستطيع أن يطلعك على ما تريد، ومتع الرجل بالثروة الفنيّة والحضاريّة للعالم تكون أكمل في صحبة المرأة منها بدونها”. هذا كلامه الذي قيل في العام 1965، لو رفع رأسه، ورأى نساء الرقّة اليوم، ووضع ثرواتها الحضاريّة، ماذا يمكن أن يقول!
ادخلوا من الباب الضيّق:
يقول العجيلي “كتب أحدهم في جريدة “النقّاد” عنّي أنني أعيش في برج عاجيّ، فقلت لهم تعالوا إلى الرقّة وانظروا بعينكم لتدلّوني أين هو البرج العاجيّ! كان لدينا برجان من الطين من بقايا أيّام هارون الرشيد، ونحن نغوص في الطين في شوارع البلدة حتّى الركب شتاء ويعمينا الغبار صيفاً، فهل أعيش في برج عاجيّ أنا؟ السيّد المسيح يقول في الإنجيل “ادخلوا من الباب الضيّق”، وأنا أحبّ العسر لأنني أجد فيه مجالاً للإنتاج ولمحاولة التغيير… ولا أريد أن أتميّز عن غيري لمجرّد انّي كسبت شيئاً من الثقافة، فأهجر بلدي وأهجر أهلي”!
ليس أضيق من الباب الذي يدخله أهل العجيلي ومواطنوه اليوم، الذين لم ينالوا حظوة ممارسة الجدل الفكريّ والنضاليّ من ساحات بيكاديلّي والشانزليزنه، ولعلّنا لو قرأنا قصّته الشهيرة (نبوءات الشيخ سلمان) سنعرف أنّ من يستسلم لقول (ألف) سينتهي به الأمر أن يستسلم لقول (ياء)، وأنّه يمكن لعين واحدة، مخلصة طبعاً، أن تقرأ المستقبل العربيّ بعيداً عن صخب الإعلام الذي يدور حول نفسه، وبعيداً عن جهود محلّليه الضائعة.
(الاقتباسات من كتابه “أشياء شخصيّة”، ط3، 2000، الأهالي، دمشق).
___
*عمّان.نت