*هدية حسين
لم يجد ما يستحوذ عليه لأنه استحوذ على كل شيء، البيوت والأسواق والساحات والمتنزهات والشركات الكبرى والصغرى، وأرواح الناس الذين معه والخارجين على إرادته، بتُهم أو من غير تهم ، ولم يتوان عن شراء الضمائر التي كانت تباع بثمن بخس على أرصفة الشوارع وفي الخمارات، ومن دون ثمن أحياناً طمعاً برضاه..
وصار الناس رهن نزواته وطوع أصابعه، يخافون من زلة اللسان قبل زلة القدم، في زمن صار فيه قطع الألسن هواية يتسلى بها بعد أن أعلن في إحدى خطبه الشهيرة: إن ألسنة السوء يجب بترها، والجباه التي لا تمتثل لإرادتنا علينا وشمها بالكي، والكي عندنا ليس آخر الدواء وهم يعلمون ذلك. وبرغم أنه لم يجد ما يستحوذ عليه بعد أن استحوذ على كل شيء إلا أنه ما يزال يفكر بأن ثمة شيئاً فاته أن يستولي عليه أو يشتريه.. صار يشكو من الأرق وهو يفكر بذلك الشيء المفقود، رائحة البارود عالقة في ثيابه الفاخرة برغم العطر الذي يفوح من أردانه، اشترى كل عطور الدنيا وأمر أن تكون في زجاجات على شكل جسد امرأة، وزوجاته اللواتي لا يُعرف بالتحديد عددهن رحن يتنافسن على امتلاك قلبه،غير مدركات بأنه لا ينظر الى القلب إلا من زاوية أنه عضلة تضخ الدم الى الجسم، ولا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالعواطف، وللدم عنده اشتهاء يُؤجج فيه العطش، لا تكفيه الحروب التي أشعلها ولا المقابر التي ابتكرها ولا السجون السرية التي صنعها ولا طرق الموت التي طوّرها.
كان الطقس مضطرباً نهار ذلك اليوم التموزي برغم أن عاصفة الغبار قد هدأت، مخلفة وراءها لوناً ترابياً على الأمكنة قضى الناس ساعات طويلة لإزالته من بيوتهم، ثم خرجوا للتسوّق من المتاجر والدكاكين لشراء حاجياتهم قبيل أيام قليلة من قدوم العيد، وكان الازدحام على أشده في الشارع الرئيس للعاصمة الذي يسمى بشارع الشعب..عندما جاء موكب صاحب السعادة، مرّ بيسر أول الأمر، لكنه حين وصل بالقرب من السوق الكبير تعذر مروره، نصف الشارع زحفت عليه البسطات وعربات تبيع كل شيء بأرخص الأثمان، ثمة امرأة عجوز تقف بالقرب من عربة بيع الملابس المستعملة تقلّب ملابس للأطفال، الطفلة التي تقف الى جوارها يُرجح أنها حفيدتها، لم تنتبه العجوز للضجة التي حدثت.. كانت صمّاء، وحينما رأت التدافع ظنت أن عمال البلدية كعادتهم يطاردون المتجاوزين على الشارع لعرض بضاعتهم.. نزل رجال الحماية من سياراتهم الفاخرة، نظارات سود وأجسام ضخمة وأصابع خشنة طويلة مُتدربة بقسوة على الزناد، يدفعون هذا ويضربون ذاك ويدوسون بأحذيتهم الثقيلة أي دابة تمشي على الأرض ويهشمون زجاج السيارات إن تأخر أصحابها في السير، فهرب من استطاع الهرب من الناس غير مكترثين بفقدان بضاعتهم، طارت البضائع وانقلبت العربات، انهرست الطماطة وتشظت أشياف الرقّي وانطعجت صحون وقدور الفافون وانكسرت الزجاجيات وسقط من سقط تحت العربات أو تحت الأحذية، ومن بينهم تلك العجوز التي لفظت أنفاسها الأخيرة تحت عربة الملابس المستعملة، بينما الطفلة التي كانت معها لم يُعرف لها أثر.
الشارع الذي سار فيه موكب صاحب السعادة، يمتد من بداية شارع( الأنس) مستقيماً مرة ومنحرفاً ناحية اليسار أو اليمين مرة ، حتى يصل الى منتصفه عند النقطة التي تلتقي فيها الشوارع الفرعية لعامة الشعب، ولا مخرج أو مدخل لهم للوصول الى مراكز التسوق إلا من خلاله، ثم يصل الى نهايته في ساحة مدوّرة ومسوّرة بأشجار الآس، كانت متنزهاً للعوائل في المناسبات والعطل الأسبوعية، ولكن حين اعتلى صاحب السعادة سدة الحكم ورفع قبضته الفولاذية، تغير وجه الساحة وحرّم الدخول إليها، صار سياجها الأخضر حديديا، وأغلق شارع(الأنس) الذي يضم مطاعم السمك والحانات والمقاهي، بعد أن ارتفعت جدران القصر الجديد لصاحب السعادة، على أطراف النهر من الجهة الأخرى، ومُنعت السباحة وعبور الزوارق في النهر الذي يفصل بين الجهتين.
بعد الفوضى التي عمّت شارع الشعب ، إثرهروب الناس وتهشيم زجاج السيارات، انتظم الموكب، وغادر الغضب وجه صاحب السعادة، هدأت أعصابه فرسم الابتسامة على وجهه، ولانت معه أسارير حمايته التي لاحظت الرضا يطفو على محياه بما يعني أنها قامت بأكثر مما يتطلبه الواجب.
في تلك اللحظة، والشارع يخلو من الناس، والموكب يتهادى مختالاً، انبثقت الفكرة من رأس صاحب السعادة ومشت معه إلى قصره الكبير، كانت وليمة الغداء قد أعدّت، هو وحده يجلس في مقعده المذهّب، يحيط به حراسه، أما الزوجات اللواتي لا يُعرف عددهن، فينتظرن في المضاجع، متبرجات ومضمخات بأثمن العطور، كل واحدة تنتظر وتمني النفس أن يُفتح باب غرفتها لاستقبال صاحب السعادة، تماماً مثلما ينتظر الخدم في قصوره العديدة قدومه على حين غفلة فيعدون الطعام الذي يحبه ثم يرمونه في آخر الليل إلى النهر بانتظار يوم آخر لعل صاحب السعادة يأتي، ويفعلون الشيء ذاته في الأيام الأخر.
لكن خططه في ذلك اليوم تغيرت بعد عودة موكبه من ذاك الشارع ورؤيته كثرة المتبضعين من السوق الكبير، سحب من جيبه القلم المذهّب وحوّل الفكرة إلى أمر، أعطى الأمر إلى مرافقه بتحويل الشارع من ملكية عامة إلى ملكية خاصة أسماها عملية شراء بين الحاكم والمحكوم، هو يعرف قبل سواه أن المحكومين لا يملكون شيئاً.
في اليوم التالي قام بجولة تفقدية لسكان العشوائيات، وزع عليهم عدداً من الصوبات البلدية والبطانيات على الرغم من أن الفصل كان صيفاً، وقال قولته الشهيرة بأن القانون يمكن تغييره بشخطة قلم، وعند الثامنة مساء أعلن مذيع التلفزيون الوسيم الأمر الجديد قائلاً إنه بموجب القانون الممنوحة صلاحياته الى صاحب السعادة فقد تم تحويل شارع المدينة الكبير من ملكية عامة إلى ملكية خاصة وسيتم تعويض أصحاب الشأن بأكثر مما يحلمون من أجل الصالح العام.
لم يهلّل أحد من الشعب ولم يبتهج، هو الذي تهلّلت أساريره وابتهجت روحه، وصار لزاماً على من يُضطر لقطع ذلك الشارع، راجلاً أو في سيارته، أن يدفع ضريبة مرور، وأصبح الشارع يُعرف بشارع صاحب السعادة بعد أن كان اسمه شارع الشعب.. لكن الأرق مايزال يعبث بجفني صاحب السعادة على الرغم من أنه امتلك فعلاً هذه المرة كل شيء بما في ذلك أرواح الناس.. ثمة شيء مفقود من سلسلة ممتلكاته…
لعلّه الهواء الذي يتنفسه الشعب.
_________
* كاتبة وروائية عراقية مقيمة في كندا