الأشياء الجميلة حين تأتي في غير وقتها


*د. حسن مدن


على عكس ما يوحي به عنوان الفيلم وصورة الملصق الخاص به، فإن فيلم «الجمال الأمريكي» الذي أنتج وعرض قبل نحو عقدين ليس فيلماً عاطفياً أو رومانسياً. إنه فيلم عن القسوة، ولا نعني بالقسوة هنا العنف في المعنى الذي يرد في ذهننا حين نتحدث عن أفلام الإثارة، وإنما القسوة في تفاصيل الدواخل الدقيقة للبشر، والقسوة في طبيعة العلاقات بينهم، حيث برع المخرج «سام منديز» في تقديم الفيلم في إطار مثير ينطوي على العديد من اللفتات الذكية، فيما قدم الممثل كيفن سباسي، بطل الفيلم، واحداً من أكثر أدواره إثارة، ما جعل الفيلم واحداً من الأفلام المهمة.
ورغم أن الفيلم يقدم صورة عن المجتمع الأمريكي في لحظته الراهنة، التي هي أشبه بلحظة ما بعد نضج الثمرة، حيث تأخذ في التآكل والتفسخ والعفن، طارحاً بذلك أسئلة أخلاقية وفلسفية عن الإنسان كفرد منعزل في مجتمع صناعي بالغ التطور أوصلته التقنية إلى درجة عالية من التنظيم والدقة، لكن بعد ما خربت عالمه الروحي.
إلا أن الفيلم أقرب إلى سيرة التحليل النفسي لشخوصه أكثر منه شهادة إدانة ضد المجتمع الأمريكي هذا، على الأقل، ما يمكن أن نستشفه منذ «الكادر» الأول في الفيلم الذي يبدأ بحديث للبطل «لاستر برنهام» الذي يعدنا بقصة مثيرة عن رغبته في تغيير مجرى حياته، تلك الرغبة التي ستؤدي به إلى الموت بعد سنة.
حكاية الفيلم تدور حول عائلة من زوج وزوجة وابنتهما المراهقة الوحيدة، وإذ يعاني الزوجان من أعراض أزمة منتصف العمر وسط فتور في المشاعر وشعور طاغ بالملل والرتابة، فإن الابنة الوحيدة عرضة هي الأخرى لتحولات المراهقة وتداعياتها، مما يدفع الجميع إلى ملابسات معقدة مليئة بالتناقض والغرابة، واختار كاتب السيناريو أن يختبر شخوصه الأساسية ويجس ردود أفعالهم في علاقتهم مع العالم الخارجي من خلال علاقة أفراد العائلة بعائلة أخرى تسكن في الجوار، والمكونة من ضابط في مشاة البحرية وابنه المراهق مدمن المخدرات والمأخوذ بتصوير مشاهد الموت في إشارة شديدة الذكاء من الكاتب والمخرج على حد سواء إلى الشعور العميق الذي يتسلل عبر أحداث الفيلم بلا جدوى الحياة وعبثها، وزوجته التي كانت طوال الفيلم مغيبة كأنها في حالة فقدان للذاكرة، حتى ردود فعلها تجاه ما يدور حولها من أحداث مثيرة تبدو بليدة ومحايدة.
قلت: إن ابن الجيران مأخوذ بفكرة تصوير مشاهد الموت. ويبدو ذلك من خلال إمعانه في تصوير طائر نافق، وفي تحديقه الغريب في وجه البطل «لاستر برنهام» بعد مقتله في اللحظات الأخيرة من الفيلم.
إن الفيلم المليء بالأحداث والتداخلات المثيرة والغريبة والباعثة على التوتر يضج رغم ذلك بالحياة. إن هاجس النهايات والفقد والموت هو الخيط الناظم لأحداثه إذا ما تمعن المشاهد فيما وراء جلبة الأحداث وغرابة الشخوص. لكنه، أعود فأقول، فيلم عن القسوة، عن بشر يواجهون مصائرهم منفردين في مجتمع يندفع أكثر فأكثر نحو العزلة والفردية، والفيلم الذي قد يصدمنا بأخلاقيات مجتمع غريب لا نعرفه يعبئ رأسنا بالأسئلة التي تضج وراء الشعور بسطوة القسوة الذي ينتابنا ونحن نغادر قاعة العرض.
بعيداً عن الفيلم وأحداثه، أو ربما من وحيها، يجوز لنا التساؤل، عما إذا كانت هذه القسوة التي تحيط بالبشر، آتية من غلالة الحزن التي لا مفر لهم من أن يكونوا عرضة لها، بين الحين والآخر، حتى لو كان من ذاك الذي دعاه أحد الكتاب بالحزن الأسود، فلا هو تعس ولا أسود، مُشبهاً حزنه بالبحر من حيث العمق والاتساع، بهشاشة الأشياء أو عظمتها، لا فرق. وهذه الحيرة ناجمة عن تضارب أو تناقض المشاعر التي تنتابنا، في مناسبات بعينها، كأن نودع عاماً ونستقبل آخر، في مناسبات من نوع رأس السنة، أو أعياد ميلادنا، ما يحملنا على السؤال ما إذا كان مصدر هذا الشعور بالحزن آتٍ من حقيقة أننا نخسر زمناً، نخسر سنة من العمر أم انه ناجم من إننا ننفض عن كاهلنا حملاً ثقيلاً، فنحسُ ما يحسُ به المثقل بالأشياء التي انزاحت عنه، فانتابه شعورٌ بالخفة والرغبة في الطيران.
لذا يبدو الحزن الهادئ الذي عناه الكاتب شيئاً من تطهر النفس من أعبائها ومتاعبها، فالفاصل الزمني اليسير بين عامين، وهو فاصل من الزمن لا يكاد يُدرك أو يُحس لفرط قصره، يكثف في نفوسنا المشاعر الحائرة المشتبكة بين الحزن والفرح، بين السعادة والأسى، بين القنوط والأمل.
لكننا حتى في أقسى لحظات القنوط التي يمكن أن تنتابنا لهذا السبب أو ذاك، نكون قد عقدنا العزم، في أعماق ذواتنا، ألا نرضخ لهذا القنوط، إننا نضمر النية حتى لو لم نُعلنها على أن نبقي أشرعة الأمل منشورةً، وفي ألا نبقى أسرى ذلك الشعور الثقيل بالقسوة، فمن النادر أن تُسعفنا الحياة بلحظات للتأمل والتبصر في أنفسنا، في ما نريد وما لا نريد، في الذي أنجز من طموحاتنا، وفي الذي لم ينجز، بل ربما تعين علينا أحيانا أن نصدم أنفسنا بالسؤال القاسي والصعب: من نحنُ وماذا نريد؟، وأن نشعر بالحزن الهادئ فذاك دليل يقظة الروح وعدم موات الأحاسيس في نفوسنا.
ربما لأن هذا الحزن الهادئ هو بحد ذاته أمارة من أمارات الفرح والبهجة الخفية أو الرغبة فيهما، أمارة من أمارات إننا «نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا»، وان جذوة الكفاح في دواخلنا ما زالت حيةً ، قويةً، تمنحنا الحماية من اليأس ومن الاستسلام لواقعٍ لا نرضاه، ولا يُحقق لنا ما هيأته فطرتنا الأولى لأن نكونهُ، ولأن نأخذه.
المدهش أن الذاكرة تفعل فعلاً محيراً في نفوسنا، فهي في الحالين تبعث في النفس ما يحمل على شيء من الشجن والحزن، يمكن أن يكون تارة في غاية القسوة، وتارة أخرى يدخل في عداد ذلك الذي راق لنا وصفه بالحزن الهادئ، فالذكرى القاسية إذ تنبعث في النفس تجلب إلينا مشاعر الأسى، حتى وإن كانت صفحة تلك الذكرى قد طويت وباتت ماضياً، لكن استعادتها تنطوي، هي الأخرى على الألم؛ لأن مع هذه الاستعادة نتذكر مقادير القسوة التي عشناها لحظتها، عندما كانت حدثاً حياً، قبل أن تتحول إلى ذكرى.
والأمر صحيح، ولو بنسبة في حال ما إذا كانت تلك الذكرى سعيدة، ذلك أننا في حال مثل هاته، نأسى أن تلك السعادة باتت ذكرى، وأنه لا يمكن استعادتها، فهي حدث تمّ في الماضي، ولن يعود هو نفسه. صحيح أننا قد نكون سعداء لسبب آخر في لحظة التذكر هاته، ولكن مصدر سعادتنا هاهنا مصدر آخر، حاضر، أما تلك فأصبحت ماضياً.
في هنيهات مثل هذه يتفاجئ الإنسان أحياناً بأن مخزونه من الذاكرة يحتفظ بقدرٍ هائل من التفاصيل والحكايات والوقائع والمشاعر الكامنة أو حتى تلك التي انطفأت تماماً. ويحدث أن نلتقي بصديق قديم جمعتنا معه عشرة طويلة، قبل أن تأخذنا الحياة إلى مصائر مختلفة، فيذهلنا أنه مازال يتذكر أشياء وأمور نسيناها أنا كلية، ولكننا نلاحظ أنه هو الآخر نسي أشياء أخرى مازالت قابعة في منطقة مضيئة من ذاكرتنا.
وهذا يحث على التأمل في حقيقة أن ذاكرة كل إنسان تحتفظ بنوعٍ من الذكريات تتسق وشخصيته أو ميوله، كأن آلية عمل الذاكرة هنا آلية انتقائية. رغم ذلك ليس واضحاً تماماً كيف تستعاد الذكرى. يقال أحياناً إن هناك محفزات خارجية تصادف المرء فتوقظ لديه ما يتصل بها من ذكرى نظن إنها غاصت بين طبقات الذاكرة ولم تعد تلح على الخاطر.
ومن المحفزات الخارجية للذكرى أن تمر على مكان ارتبطت به يوماً أو تسمع أغنية أو تشم رائحة… الخ. ولكن بواعث الإيقاظ ليست خارجية فقط، فالذاكرة ماكرة وقد تحرض عليها عوامل غامضة، وليس صحيحاً دائماً أن الزمن كفيل بجلب النسيان، فالزمن مخاتل هو الآخر وملئ بالمفاجآت، ويبدو صحيحاً أن الإنسان كثيراً ما يلجأ للذكرى تعويضاً عما هو مفتقد في الواقع. صحيح أن التعويض هنا شديد الرمزية، ولكنه شديد الفعالية كذلك ولو في بعض اللحظات.
يفرق الراحل غالب هلسا في أحد مقالاته بين نوعين من الأمكنة: المكان الأليف والمكان العادي. ربما جازت الاستفادة من هذا التقسيم للتفريق بين نوعين من الذكريات: الذكرى الأليفة التي تجئ لا تؤذي كما يقول مارسيل خليفة في أحد أغانيه، والذكرى غير المستحبة التي لا تبعث على السعادة.
وعلى سيرة السعادة أذكر مشهداً من فيلم قديم أيضاً عن رجلٍ تكالبت عليه محن الدنيا، ووجد نفسه وحيداً بجوار بحيرة نائية معزولة. حين أفاق ذات صباح باكرٍ على مشهد آية في الفتنة والجمال للطبيعة من حوله، تساءل بينه وبين نفسه: كل هذا الجمال لي؟! قبل أن يستدرك قائلاً: إن الأشياء الجميلة تأتي أحياناً في غير وقتها. كأن للسعادة لحظتها الخاصة بها، تلك اللحظة الشديدة الخصوصية التي يتملكنا فيها الشعور بالفرح والطمأنينة وتناغم العناصر المختلفة للرضا النفسي والروحي.
ساعتها ليس مهماً كيف نعرف اللحظة الأليفة، لحظة السعادة، يكفي أننا نعيشها.
______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *