*بروين حبيب
فجأة ودون سابق إنذار، يطفوالحقد «العربي» على شاعر أو كاتب أو روائي كما حدث منذ سنوات مع الروائي السوري حيدر حيدر، بسبب روايته «وليمة لأعشاب البحر»، حيث تحرّك الشارع العربي، خاصة المصري انطلاقا من الأزهر، وطالب بإهدار دم الكاتب.
أحرقت الرواية ووصفت بأحقر الأوصاف، الرواية التي لم يقرأها المتظاهرون، والتي كانت منسية تماما على رفوف المكتبات، انبعثت من موت محتم بعد تهميشها سنوات طويلة وطبع منها آلاف النسخ لتعيد كاتبها للواجهة الثقافية، وتحيي دار نشره التي قاربت على الإفلاس.. بل وأحيت الكاتب نفسه الذي بشكل ما تفرّغ للكتابة فلم يعد لديه ما يكتبه.
حكاية «وليمة أعشاب البحر» التي قرأتها أنا الأخرى متأخرة، صدمت فيها بكم الحقائق المُرّة التي عاشها صُنّاع ثورة الجزائر بعد الاستقلال، لكن صديقا جزائريا أديبا وناقدا أكّد لي أن الرواية من فرط دقتها وصدقها في وصف الجزائريين وواقعهم لا يمكن تَوَقُّعَ أن من كتبها سوري، لهذا لم يأبه الجزائريون لكل تلك الغوغاء التي حدثت بسبب الرواية.
وجدي الأهدل الروائي اليمني الذي دخل عالم الرواية من بابه الواسع بقوارب جبلية أيضا، لم يتوقع أن تنقلب حياته رأسا على عقب بسبب رواية، فالكاتب العربي يعيش مهمشا ومنسيا ومهملا، وغالبا فقيرا لأن فعل القراءة شبه معدم في مجتمعنا، لهذا فحتى الكاتب نفسه حين يصبح مهددا بسبب ما كتب يصاب بصدمة، ولعله يتساءل: من هذا القارئ الذي لديه شجاعة أن يجلس مع كتاب ويقرأه؟ ثم من هذا القارئ الشرير الذي يقرأ فقط ليحرّض الناس ضد كاتب ليهدروا دمه لأنه كتب شيئا من مأساة مجتمعه؟
لا حيدر حيدر، ولا وجدي الأهدل ولا من سبقوهما عرفوا سبب هذه الأحقاد التي تهطل فجأة ضد كاتب لا تعرفه سوى النخبة.
اغتيل فرج فودة بسبب تكفيره من طرف جبهة علماء الأزهر سنة 1992، وبما أن « الأزهر» مرجعية دينية مهمة، فإن المجتمعات الإسلامية وافقت ضمنيا على فعل الاغتيال. أما صوت النخبة فقد خبا وسط صخب أصوات المتطرفين الذين وجدوا في مجتمعاتنا الجاهلة وسطا خصبا لزرع أفكارهم.
نصر حامد أبوزيد عاش محنة تكفيره أيضا، والغريب أنه نال جائزة مؤسسة ابن رشد للفكر الحر، من معهد غوته ببرلين، قبل أن يعيش تجربة المنفى مثل إبن رشد نفسه، وكأن الزمن متوقف عندنا في محطة واحدة لا يتزحزح من مكانه، فثمانية قرون بين الرجلين لم تغير شيئا في مجتمعاتنا، سوى في بعض مظاهر حياتنا اليومية القائمة على استيراد الجديد من الغرب التكنولوجي.
رواية الرّاحل نجيب محفوظ «أولاد حارتنا» أثارت بلبلة غريبة في الوسط المصري، إذ بدأ نشرها كقصة متسلسلة في جريدة «الأهرام» سنة 1950، فأوقف نشرها بعد شهرين من ذلك، ولم تنشر في مصر على شكل كتاب لرفض الأزهر لها، واحتراما لطلب ممثل الرئيس المصري آنذاك لنجيب محفوظ بعدم نشرها، وهي إن نشرت في لبنان من طرف دار الآداب سنة 1967 فإن لعنتها حلّت على الكاتب في أكتوبر/تشرين الأول 1995 من طرف شابين. وهذا في حد ذاته يبين أولا، أننا نحتاج لثلاثين سنة لنقرأ كتابا، وثانيا حتى إن قرأناه فإننا لن نفهمه، أما ثالثا فإننا قد نتحوّل إلى مجرمين إذا قرأنا كتابا لم يعجبنا!
ولعلّ التطرف الديني الذي خرج من مؤسسات دينية ممولة من طرف الدولة في الغالب، وجد خارج تلك المؤسسات ما يغذيه وينعشه، ما جعل أغلب الكتاب والشعراء يتفادون الدخول في متاهة الدين حتى لا يثيروا غضب أحدهم فتهدر دماؤهم. لكن الموضة اليوم، وفي سابقة خطيرة، نقرأ عن دعوة غاضبة لإحراق كتب الشاعر العراقي سعدي يوسف، لأنه كتب قصيدة «لا تشبه القصائد في شيء» تقول «مصر العروبة..عراق العجم»، يصف فيها الشاعر كيف يشعر بالعروبة دافقة حين يدخل مصر، وكيف تحوّل «عراقه» إلى «عراق العجم».. متسائلا: هل العراق عربي؟
ثم يختم نصه بقوله «نحن في عراق العجم، سأسكن مصر العربية»، علما أن سعدي يوسف تأويه بريطانيا منذ سنوات طويلة، وما قاله في نصه حتما من باب «أجمل الشعر أكذبه» وإلا ما معنى أن يكتب كلاما عنصريا كهذا في نص لم يضف شيئا لتجربته الشعرية؟ وكتب قبله بسنوات
«يا رب احمِ أمريكا
موطني اللذيذ»
ما معنى أن يقلل سعدي من قيمة العراق بنسبه للعجم، وكأنّها صفة مذلّة وإهانة لعروبته؟ هو الذي نال جوائز كثيرة من بلدان العجم، ولم ينل كل هذه «الأُبّهة» في الأوساط الشعرية إلا بعد أن ترجم للغات أجنبية…
هل يمكن للشاعر أن ينحاز لعروبته ولا ينحاز للإنسان نفسه؟ هو الذي يعيش في بلد من شدة تنوع سكانه بين عرب وعجم، وطوائف وأديان وهويات من كل صوب وحدب أصبح أشبه بموزاييك بشري؟ لماذا هذه الصّرعة في آخر العمر؟ هذا الحقد العرقي؟ هذا التعجرف الذي لا معنى له في قاموس الشعر؟
كأنّه يريد إثارة الضجيج حوله لا غير… لكن لم يتحقق له ذلك.
كأنّه يريد أن يستعطف الغرب بشكل أكبر إذا ما تحقق له ما يريده من «قهر» و»تهديد» مفترض!
صحيح أن فكرة إحراق كتبه تبدوغبية، لكن إن كان التطرف الذي نعاني منه في بلداننا الإسلامية ستزيد حدته، وتزيد عناصره عنصرا جديدا، فلا داعي لأن نعتبر نص سعدي يوسف مُهِمًّا، خاصة أنه لا يشبه نصوصه في شيء…
لا يشبه نصوصه القديمة، حين كان شاعرا تهزنا كلماته، أمّا اليوم، فقد أصبح من الصعب أن نفهم إلى أين يريد الشاعر أن يذهب بالشعر؟ هل سيدور بنا في حلقة الأخطل والفرزدق وجرير، أم حلقة ابن الرومي والمتنبي؟
أم أنه سيدخل مدارات الفضائيات ومواقع الإنترنت التي اتخذت من الهجاء والتهكم بالآخر مهنة يرتزق منها أصحابها من الأثرياء مرضى القلوب.
مؤسف أيضا، ونحن في منعرج خطير من تاريخ أمتنا، أن نفقد التعقل الذي يجب أن تتحلّى به النخب. فنحن مفضوحون تماما أمام قرائنا، بحكم أنّ الكتابة كانت ولا تزال «عُرْيَنا» الحقيقي، وبصمة تجربتنا الإنسانية، فهل بإمكاننا أن نبني علاقة متينة مع قارئ ناضج بكلام مراهقاتي يشبه ثرثرات قبائلنا المتقاتلة في العصور الغابرة…؟
أحمل راية الشعر البيضاء وأنادي:
في البدء ضمدوا جراح العراق…
ضمدوا جراح الشعر
لأنه ما عاد يتحمّل …
وارحموا العروبة فقد صارت في مهب الموت…!
* شاعرة و اعلامية بحرينية/ القدس العربي