مسكين هو الكاتب العربي.. مسكين حقًا



*فاضل السلطاني


مسكين الكاتب العربي. فعليه، فعليًا وليس مجازيًا، أن يبذل جهودًا هرقلية حتى يصل، هذا إذا وصل، ولم يتوقف في منتصف الطريق، يأسًا أو تعبًا. يصرف، في طفولته أو مراهقته سنين طويلة، قارئًا كل ما قد يتوفر، من دون ناصح أو دليل، حتى يعرف ضالته. ويحتاج سنين أخرى قد تكون أطول، وهو يكتب ويمزق ما يكتب أو يحرق كل شيء في لحظة غضب ويأس. وحيدًا في «لا يقينه». لا أحد في بيته أو وسطه الصغيرين، اللذين غالبًا ليس لهما علاقة بالقراءة والكتابة، يمكن أن يأخذ بيده، أو يسديه نصحًا. ومحظوظ من وجد. وبعد زمن طويل، وحين يمتلك بعض الثقة فيما حاوله، يتجرأ ويرسل بعض القصاصات إلى هذه المجلة أو تلك أو تلك الصحيفة أو تلك. ولا يكلف أحد نفسه بالرد عليه؛ فهو اسم لا يعني شيئًا مثل مئات الأسماء التي كان يحملها البريد يوميًا. ويحملها اليوم الإنترنت.
وحين يحصل على اعتراف صغير تكون سنوات طويلة قد مرت، وقد يكون شاخ قليلاً. وإذا تجرأ أكثر وفكر بطبع كتاب، ستكون المتاهة الحقيقية قد فتحت أبوابها، خصوصًا بالنسبة لأولئك الكتّاب الذين لا يملكون شروى نقير. قلة من الكتاب العرب لم يدفعوا لطبع كتبهم الأولى، وربما كتبهم اللاحقة حتى إذا حققوا شهرة لا بأس بها. فالناشر العربي ليس مثل زميله الغربي الذي يبحث عن الكتاب الجيد حتى لو كان في آخر الدنيا، ومقابل مبلغ قد يسيل له اللعاب. ولا تنتهي المشكلة هنا. فهذا الكاتب المسكين لا يجد في دار النشر التي سلبته مالاً كثيرًا محررًا أدبيًا يتولى إخراج نصه في صيغته الأخيرة. فالمؤلف، أي مؤلف، غربيًا أو شرقيًا، قد يأخذه موضوعه وحماسه وتداعياته إلى ما لا نهاية، فيترهل عمله، كما في أغلب الأعمال الروائية العربية، التي يتعب المترجمون الغربيون في ترجمتها إلى لغات أخرى، وخصوصًا الإنجليزية، فهي لغة دقيقة لا تعرف الحشو والاسترسال، والجملة التي ترفض أن تنتهي عند نقطة سماها العرب نقطة السكون. تعالوا واقرأوا معظم رواياتنا المعاصرة، التي تدخل القوائم الطويلة والقصيرة، وقد تفوز بهذه الجائزة أو تلك لتعرفوا أي خراب فني ولغوي يجتاحنا. كل عمل أدبي يحتاج إلى عين أخرى، عين محترفة، تخلصه من الزوائد التي تثقله، التي لا يدركها المؤلف نفسه، فقلما يكون المرء موضوعيًا مع عمله. ثم، لماذا على المؤلف العربي المسكين أن يقوم بكل هذا المهمات الهرقلية؟ الكاتب الغربي يكتب فقط، وغالبًا، مثلنا جميعًا، تأخذه العواطف، أو التدفق في لحظة الكتابة، مما قد يضعف فنيتها. وهنا، سيتولى المحررون في دار النشر التي ستصدر كتابه، ما تبقى. قد يشطبون فصولاً بكاملها، ويحولون البداية إلى نهاية، أو بالعكس، ويحلون فصلاً محل فصل آخر، أو قد يرمون نصف الرواية إلى المزبلة. كل ما نقرأ من روايات غربية، وبشكل كبير، لم تكن كما كتبها مؤلفوها، وإنما تدخل فيها محررو دار النشر، إلى حد كبير أو صغير. كل الكتاب الغربيين يعترفون بذلك. الكتاب الغربي يُكتب ثم يترك كتابته لصناع النشر. ثم، إن هناك الوكيل الأدبي، الوسيط بين الكاتب ودار النشر. لا يوجد كاتب في العالم الغربي يتصل بدار النشر مباشرة. الوكيل الأدبي هو الذي يعرض بضاعته على دور النشر، ثم، في حالة الموافقة، يتابع كل تفاصيل التعاقد والاتفاق والمردود المالي من التوزيع، بدل المؤلف الذي غالبًا لا يفقه شيئًا في مثل هذه الأمور. إنها وظيفة عرفتها أوروبا منذ القرن التاسع عشر، ولا تزال غريبة علينا.
مسكين الكاتب العربي.. مسكين فعلاً. 
_______
*الشرق الأوسط 

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *