ليت الليل يتمطّى ويطول.. يكفي كي نحلم مرّتيْن!


*سوزان راسخ

خاص ( ثقافات )

هذه حكاية رحلة رغبتُ في روايتها وهي ما تزال طازجة في ذاكرتي قبل أن تتوه في زحام الحياة المليئة بالضجيج فتبقى عنوانا خالياً من التفاصيل.
كان ذلك في إحدى الأمسيات قبل أسبوعين ونهاية نهار مملّ حدّ التثاؤب، ساكناً بلا حراك، عاديّا لم أفرح فيه أو أحزن، لم أذهب فيه إلى أي مكان أو ألتق بأحد ممن أنتظر لقياهم أو أتجنبهم، وشعور فيه أبحث عن شيء غائب يعود ليحييني، عندما جاءني رنين الهاتف بصوت صديقة أيقظ في داخلي رغبة البوْح؛ فما أن سألتني عن حالي حتى مضيت أشكو لها سرعة جريات الزمن ورتابة الحياة وانسلالها من بين أصابعنا في غفلة منا.

ووجدت نفسي أتبعها بسؤال لاح لي فجأة:
– ما رأيكِ بقضاء يومين في دمشق كنوع من التغيير..؟ لي عمّة تقيم في الخارج ولها بيت خالٍ في البلدة القديمة هناك نستطيع الإقامة فيه؟
وساد صمت عميق على الطرف الآخر جعلني أتخيّل وجهها المندهش، قطعته بقولها ضاحكة:
– كم أنت امرأة الدهشة!
فما كان إلا أن أجبتها:
– بل امرأة تغدو طفلة مشاكسة للظروف.. تريد أن تغيّر الدروب وتبدّل المسارات كلما وكيفما شاءت”.
أعقبتُها بضحكة مجلجلة مني..!
في اليوم التالي، وفي السيارة المتجهة بنا إلى دمشق، كانت روح المغامرة تسكننا تحمل في طيّاتها لحظات لهفة وترقّب. علّقتْ على ذلك صديقتي بقولها:
– أشعر بطاقة متجدّدة تنبثق مني وتناغماً كبيراً بين أجواء هذا السفر الطارئ ومزاجي الشخصي!
أجبتها ضاحكة:
– أليست الأحداث الطارئة هي عظمة طارئة بحدّ ذاتها وهي تتحدّى زمانها؟

عندما وصلنا، كانت دمشق تجلس على عتبات المساء، فمساء المدينة لا يخلف موعده، كنا حينها مرهقتين، فلجأنا إلى النوم باكراً استعداداً ليوم مقبل في انتظارنا نأمل أن يكون صاخباً بالحركة والنشاط.
في اليوم التالي، كان الصباح يتثاءب عندما جلسنا في باحة البيت المفتوحة دائماً للسماء “أرض الديار” استعداداً لاستقبال شمس يوم جديد، بصحبة خرير مياه النافورة وتغريد العصافير وهي تنتقل من غصن إلى غصن على شجرة النارنج التي تظلّلها، وعبق رائحة قناديل الياسمين المتدلية وزهر الليمون وغيرها من الزهور الدمشقيّة المختلطة برائحة القهوة الصباحية المطعّمة بالهيل، وروح تموج بالكثير من الأحاسيس والمشاعر والأفكار.
وما أن اكتمل قرص الشمس على صفحة السماء وانتشر ضياؤه في كل مكان، حتى قذفنا بأنفسنا خارج البيت لنتوه في سوق السروجيّه المليء بمعالم البلدة القديمة التي تعكس روح الحارة الدمشقيّة؛ في أناس بملامح وقد تجذرت بالمكان وحواري وانحناءات تنتشر على جانبيها محلات شواء اللحوم والمعجّنات “الصفيحة”، ومعروضات التوابل والمخلّلات والحلويات بأنواعها وغيرها. ومنه إلى سوق الحميديّة، ذلك السوق التراثي الشاهد على تاريخ عريق والذي يعجّ بعدد هائل من الزوّار ومحلات ملبوسات وحليّ وعطورات وسجّاد وتحف دمشقيّة. فيه اصطدمنا بالكثير من السماسرة أو ما يسمى باللهجة السورية بـ “العزّيمة” عمال المتاجر الذين يقفون في منتصف الشارع داعين المارّة إلى المحلات لشراء البضاعة، كنا نتضاحك ونحن نحاول التخلّص منهم وهم يلحّون علينا بالقول “تفضلوا يا أخوات”، إلى أن انتهينا في أروع التحف المعماريّ، إنه الجامع الأموي أفخم المعابد الدينية الإسلامية على الإطلاق.
وكان مسك الختام تذوق البوظة الشاميّة الشهيرة المطعّمة بالقشطة والفستق الحلبي.
في المساء كنّا على قمة جبل قاصيون؛ في الأسفل بدت المدينة رائقة وديعة، هادئة ممتلئة بالطمأنينة والحميميّه. والشمس تميل إلى الغروب والسماء السرمديّة وقد اصطبغت بذلك اللون الأرجواني تاركة الفسحة للقمر والنجوم الباسمات وقد بدأوا بالخروج من مخابئهم لتكتسب المدينة النكهة الليليّة بأضوية المدينة وهي تُضاء تباعاً مثل قطع الدومينو تمتد عبر مساحاتها الشاسعه وهي تبدّد ظلمة قد أتمت إسدال ستائرها وكأننا أمام لوحة بكل منمنماتها الدقيقة.
في اليوم التالي كان موعدنا مع أمسية وأجواء تراثية رائعة في مطعم أبى إلا أن يحافظ على طابعه الشرقي؛ حيث كل شيء يبتهج ويصخب بزينته وزخارف ديكواراته الإسلامية العتيقة؛ فيه تناولنا العشاء في أجواء سيرياليّة صوفيّة مفعمة على وقع منشدو مدائح نبويّه بأزياء شعبّية وطرابيش، وراقص الملاية “التنوره” منتشياً في رقصة احتفالية مبهرة وقد نشر ذراعيه للهواء وهو يدور حول نفسه بتنورته الملوّنة في حالة اندماج مطلق العقال وكأنه لا قدرة لديه على ضبطه؛ اندفاعه وحماسه أذهلاني، كان كمن أرهقته متاعب الحياة فقرر أن يدور ويدور لا يتوقف حتى لا يواجهها. وشعرت بالمكان يمتلك لغة الدهشة ويرسل لي ذبذبات أجّجت مشاعر جعلتني أدور معه حتى ابتلعني المكان حتى الضياع!.
وأخيراً جاء دور القدود الحلبية ثم صوت شجيّ يشدو:
((.. ليه تشكي من الدنيا يا ورد.. ليه دمعك ينزل عالخد.. افرح.. غنّي.. وعيش متهنّي.. دي الدنيا ما بتدمش لحد..))!
كنت غارقة بحمولة هذه الكلمات الدراميّة المكثّفة عندما لاحت لي فجأة ثمّة دوائر تتشكّل وتتسّع مخلخلة المشهد أمامي بين الحين والآخر.. فبدا لي المشهد وقد أصبح كالصورة المنبعجة أو المرآة المضبّبة فيه بوم ينعق منذراً بالشؤم والخراب!
وشعرت بفوضى عارمة أرزح تحتها، وارتجافة هلوعة اجتاحت أعماقي!.
عندئذٍ فتحت عيني مذعورة، رأيتني في سريري فأدركت ما حولي.
لقد كان حلماً تكثفت فيه إحدى أجمل رغباتي!
وتمنيت لو أن الليل يتمطّى ويطول.. يكفي كي نحلم مرتين!
لله درّك يا دمشق.. أستحلفك بالله.. عودي كما كنتِ!. 

_______
روائية فلسطينية 

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *